قد تبدو هذه العبارة التي اخترناها عنواناً لعمود اليوم صيغة متعارف عليها في الشان الاداري، وهذا صحيح تماماً في البلدان التي لم تعرف جائحة “البعث”، لكنها في البلد الذي استباحته تلك الجائحة، كانت تعني السياق الوحيد الذي تعرفه اجهزة “جمهورية الخوف” أي التصفية وبشكل لم يعرفه قاموس الاجرام والقتلة من قبل؛ حيث كشف لنا الضابط السابق في جهاز امن النظام المباد الرائد صباح الحمداني عن ذلك؛ في لقائه مع الدكتور حميد عبدالله ببرنامج (شهادات خاصة) حيث تختم قرارات “اطلاق السراح” الصادرة عن لجان التحقيق الامنية، والتي لم تجد ادلة كافية على المتهمين (المظنون بولاءهم للحزب والثورة) بعبارة “حسب السياق” والتي تعني تصفيته واخفاء أي اثر عنه..! بالله عليكم أية عقلية اجرامية ودونية هذه..؟ حيث تبقى الضحية من الناحية القانونية والشرعية على قيد الحياة بعد قرار “اطلاق سراحها” لكنها مفقودة ولا أثر لها. وتصوروا يرعاكم الله حجم المعاناة التي يعيشها أهل الضحية نفسيا واجتماعيا وقانونيا، بعد تطبيق ذلك الابتكار الجهنمي للمقبورين صدام ومدير امنه فاضل البراك..؟
لأول مرة أشاهد مسؤول في أمن النظام المباد، يشذ عن مسوخ وحطام تلك الاجهزة القمعية، ليقف الى ما تبقى لديه من آدمية وضمير، لا سيما عندما قال؛ بان كل ما يجري في عراق اليوم هو جزء من ذلك الحصاد المر الذي زرعته أربعة عقود من الهيمنة المطلقة لتلك الاجهزة الشيطانية. الرائد صباح الحمداني كان يشغل موقع متوسط في جهاز الامن العام وفي مديرية امن النجف، وقدم معلومات مهمة عما جرى ويجري، فما هي المعلومات التي يمكن أن يقدمها الصندوق الاسود لذلك النظام، أي المجرم سعدون شاكر والمعتقل لدى حكومات مرحلة العدالة الانتقالية..؟ سؤال بريء جداً لربابنة حقبة الفتح الديمقراطي المبين، والحريصون جداً على طمطمة كل ما له علاقة باسرار ذلك النظام واجهزته الاخطبوطية والمتسللة الى تفاصيل حياة معارضيها على وجه الخصوص. ما يجري اليوم من خلط رهيب للاوراق والمواقع والعناوين والواجهات؛ يكمن في هذه الطمطمة الممنهجة والمتواطئة مع جلادي الامس واضابيرهم المسكوت عنها، والتي بمقدورها أن تعصف بالكثير من نجوم حقبة الفتح الديمقراطي المبين.
لقد تناولت ومنذ الاعوام الاولى التي تلت زوال النظام المباد، ما أطلقت عليه عنوان “المعطوب والمذعور” وضرورة ان تلتفت مؤسسات ما يفترض انها وجدت من اجل تنفيذ مهمات مرحلة العدالة الانتقالية، لهذا الملف الشائك والخطير، غير ان الامر في تلك الكيانات الجديدة انجرف الى مسارب مغايرة تماماً لما رسم لها من مسؤوليات ووظائف، حيث تم اخفاء اطنان من تلك الملفات والاضابير والوثائق السرية، لاسباب ودوافع لم تعد مخفيه على المراقب الحصيف للشأن العراقي وتعقيداته المتعاظمة بهمة ذلك الكم الهائل من حشود “المعطوب والمذعور” ممن تسلل لسنام السلطات ومفاصل الدولة والمجتمع الحيوية بعد منحة “التغيير” التي تلقفوها بكل ثقة..! من دون المعلومات عما جرى من اهوال وبنحو خاص فيما أشار له ضابط امن النظام المباد، من شبكة وكلاء اخطبوطية لأجهزة الامن، في الاحزاب والنقابات والمؤسسات الدينية من شتى الطوائف وغير ذلك من منظمات وهيئات اجتماعية وثقافية، شملت قوائمها غير القليل من الشخصيات “المرموقة” زمن النظام المباد وبعد زواله؛ لا يمكن فك طلاسم ما انحدرنا اليه..
جمال جصاني