لم يكن العرب في حقبة ما يشعرون بالخوف على الحاضر، أو يبدون الاكتراث لما سيحدث في المستقبل. بعد أن أدركوا أن ليس لديهم الخيار في ذلك. فقد كانوا يؤمنون أن عليهم أن يعيشوا حياتهم بأي طريقة كانت، وليس من شأنهم التطلع إلى أكثر من هذا.
إلا أن هذه القناعة أخذت بالاهتزاز في بدايات القرن الماضي، حينما تتابعت الثورات الدستورية في إيران (1905) وتركيا (1908)، واندلعت الحرب الكونية الأولى(1914)، وسقط ما تبقى من بلدانهم العربية في قبضة الأوربيين بعد ذلك!
وحينما لفحت نسائم الحرية وجه ذلك الجيل، بدأت معالم القلق تطفح في كيانه. وابتدأ عصر الارتباك والفوضى. فلأول مرة عرف الناس أن لديهم الحق في العيش بطريقة مغايرة، يختارونها هم بأنفسهم.
وللقلق وجهان أولهما سلبي يبعث على الحزن. وثانيهما إيجابي يدفع نحو التغيير. وكلاهما يحرم الإنسان من الطمأنينة. فالحرية مسؤولية كبرى تحتاج إلى أداء متقن، وجهد عظيم. وهي اختبار حقيقي للعقل، وتجربة فريدة للذكاء. وقد تقدمت شعوب الأرض حينما حولت قلقها النفسي إلى عمل جاد، وأفكار نافعة.
وبشكل عام فإن الكون بطبيعته يميل للفوضى، ولكي يتحول إلى النظام لا بد له من طاقة. وهي ذاتها التي عبر عنها علماء الحراريات ذات يوم ب «الاعتلاج» أو «الإنتروبي»! أي أن الحرية التي تنفخ في الناس الجموح والحركة وعدم الاستقرار، تستحيل بعد امتصاص قدر من الطاقة العقلية والجسدية إلى نظام جديد. وهذا هو في الأصل ما عبرت عنه وزيرة الخارجية الأميركية «كونداليزا رايس» ذات يوم ب»الفوضى الخلاقة»!
ويرى البعض أن الظواهر الضارة ليست «ضارة» بالمطلق، لأنها تعين المجتمع على التخلص من الخمول. وقد أدت الثورات العارمة في أماكن مختلفة من العالم إلى إقرار قوانين صارمة أعادت شعوبها إلى حياة الاستقرار.
ولعل من أشد أسباب القلق الشعور بالتخلف والدونية، والرغبة في الأخذ بأسباب الحضارة. وقد أحس العرب أنهم أصبحوا في ذيل قائمة الدول، وباتوا مستهلكين لما تنتجه من تقنيات وعلوم. ولم يقتصر الأمر على السلع والبضائع والآلات والمكائن ووسائط النقل، والمواد الغذائية وسلة الخضروات، بل تجاوزه إلى الآداب والفنون والثقافة والرياضة. ومثل هذا الإحساس جعل الإنسان العربي في أشد حالات الاضطراب والحرج.
إنني أظن أن القلق السلبي الذي يؤدي إلى التذمر، ويحمل البعض على الهجرة إلى البلاد الأخرى، هو السائد الآن في المنطقة. وهو أعجز من أن يقود إلى وضع نافع، أو يدفع باتجاه موقف سليم. ولا بد أن يتحول بمرور الوقت إلى شكل آخر. فالقلق الإيجابي الذي يمنح الإنسان مزيداً من النشاط، ويحفزه للقيام بعمل استثنائي، نحو إقرار النظام والتخلص من الفوضى، هو الوحيد القادر على تحويل وجهة العرب الحالية من الضياع إلى التماسك، ومن الخراب إلى العمران، ومن اليأس إلى الأمل، ومن الضعف إلى القوة.
محمد زكي ابراهيم