فن صناعة الأعداء

في الوقت الذي تحث فيه الشعوب والامم خطاها على طريق ترسيخ أمنها واستقرارها وازدهارها، عبر صناعة أفضل المناخات والشروط التي تؤمن ذلك، حيث نجدها تستعين بأفضل الوسائل والسبل في مجال اعادة ترتيب وتنظيم العلاقات مع الدول والشعوب الاخرى، بعيدا عن مخلفات وآثار الحروب والنزاعات والثارات الغابرة؛ يجد سكان هذه المضارب المنكوبة بالجيل الجديد من صرخات “يا لثارات كليب” أنفسهم ومن دون خلق الله ينطلقون عكس ذلك تماماً. بالرغم من الكوارث والأهوال التي عصفت بارواح اجيال متتالية من العراقيين، وامكانات وثروات وفرص هائلة في عقود ما قبل “التغيير” وبعده؛ الا ان مقاليد امورهم ما زالت بيد نوع من المخلوقات والعقائد لا تجيد سوى “فن صناعة الأعداء” والمزيد من سكراب القادسيات. العراق اليوم بأمس الحاجة الى وعي ابعاد وحجم الاضرار التي تترتب على سيل المواقف غير المسؤولة، والتي اصبحت سمة وميزة لمرحلة ما بعد زوال النظام المباد، حيث اباحت الفوضى الادارية والقيمية لكل من هب ودب لاستعراض مواهبه في شتى شؤون البلاد والعباد، ولا سيما في مجال العلاقات والسياسات الخارجية، حيث الاصرار على اقتفاء أثر القوافل التي قامرت بمصير الوطن والناس واوصلتنا الى ما نحن عليه اليوم من اوضاع وشروط حياة لا تحسدنا عليه آخر الاقوام التي تركت عالم الأدغال.
كنا نترقب حصول انعطافة تنتشل هذا الوطن المنكوب من لعنة “التكاون” و “اهتزاز الشوارب” والموت والتضحيات المجانية، بوصفنا رمح الامة والرسائل الخالدة والمسكونة بالذود عن “القضايا الكبرى” في مواجهة الشياطين الخارجية من شتى الاحجام والوظائف والمستويات. كنا نترقب ولادة جيل جديد من الزعامات السياسية والعلمية والادارية والمهنية، يضع نصب عينه مسؤولية تحرير الدولة والمجتمع من وباء العسكرة والثارات والعنتريات الفارغة، ليضع عربة البلد على طريق النشاطات السلمية والانتاجية القادرة وحدها على انتشالنا من وسط هذا الركام الهائل من الانقاض والديون والفواتير التي اورثتنا اياها عصور الهيمنة المطلقة لـ “لحثالات الريف واوباش المدن”؛ لكن الاقدار ونوع الاصطفافات التي تشكلت من فضلات النظام المباد وحطام البشر والعقائد والحجر، اعادت تدوير الكتل والجماعات والشخصيات المسكونة بموهبة “فن صناعة الأعداء” وما يعرف بـ “حروب الوكالة” وما تحتاجه من فزعات وتشريعات لرفد عسكرة الدولة والمجتمع بكل ما تحتاجه من موازنات وتضحيات مجانية وديون اضافية.
ان قساوة ومرارة التجربة التي عاشها العراقيون مع النظام المباد، برهنت وبما لا يقبل الشك؛ على ان قوى الاستبداد واللصوصية والشعوذة، لا يمكن لها البقاء والتمدد من دون الحروب والنزاعات واشعال المزيد منها (الداخلية والخارجية). ان مناخات الامن والاستقرار والسلام تنتج بالضرورة حاجات واهتمامات وتطلعات ومزاج يتنافر وما تخطط له من أجل الهيمنة والبقاء. ومن سوء حظ سكان هذا الوطن المنكوب، انهم ابتلوا بهذا النوع من السلالات والجماعات، التي تضع مصالحها الفئوية والعقائدية الضيقة فوق المصالح العليا للوطن والناس، وهذا ما عكسته كل تجليات الحياة السياسية والتشريعية والاجتماعية والقيمية طوال أكثر من 16 عاماً من “التغيير”. لا أحد من الذين تقمصتهم روح جيفارا في الوقت الضائع، يمكن له أن يزاود على الفيتناميين في حربهم ومأثرة مقاومتهم للعدوان الاميركي في الستينيات من القرن المنصرم؛ لكنهم اليوم يقيمون أفضل العلاقات مع ذلك العدو السابق بعد ان استنزفت الشعارات السابقة غاياتها وأهدافها..

جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة