ابراهيم قوريالى
للمرة الثالثة أتّصفُ بالشجاعة لأكتبَ عن الكبير فاروق مصطفى، مرة في جريدة طريق الشعب ٢٠١٢ والثانية في جريدة الاتحاد ٢.١٤والثالثة هنا حيث أساتذتي وزملائي وأحبائي. فاروق وما أدراك ما الفاروق؟ كتلة من الهدوء تمشي الهوينا بحيث لا يؤذي ذرة من التراب التي تقبع تحت قدميه، فاروق لم ولن يفرّق بين أدباء كركوك بأطيافهم الجميلة وبألوانهم القزحية، فاروق أحبَّ كركوك حباً جماً وهي ملهمتهُ الوحيدة حسب تعبير ألبير كامو (انَّ لكل كاتبِ آو أديب نبعاً صادقاً يغذيه طوال حياته)، وأحبَّ العراق وأدبه والأدب العالمي والعربي وجعل من نفسه بوتقة إنصهرتْ في داخلها خلاصة أفكار الادباء والمثقفين الآوروپيين والروس والعرب (ارنست همنغواي، دوستيفسكي، والت ويتمان، عبدالوهاب البياتي، السيّاب، احمد خلف، محي الدين بن عربي، احسان عبدالقدوس ومحمد عبدالحليم صاحب شجرة اللبلاب وغيرهم)، فاروق قارئ نهم لايشبعُ مطلقاً ولايمرّ يوم من عمره الطويل دونها وَمَنْ يزرهُ في منزله تقابله أرجوحة زرقاء وكتابا في جوارها وتحت مخدته ايضاً وفوق الأرائكِ ورائحة الأوراق تفوح من صالته العتيقة وبقايا المسودات والمخطوطات هنا وهناك. سعيدٌ منْ كان يقدمهُ فاروق مصطفى في الأصبوحات التي يقيمها إتحاد أدباء كركوك لانه والجالسون يسمعون كلمات ذات إيقاع خاص يلقيه بفيه العذب وحديثه عن كتاب الضيف هو توضيح وتنوير وإطراء وكل حرف ينطقه يحمل نغمة خاصة يزهو بحركته القواعدية وكلها تشجيع وتحفيز وتعديل وما على المحتفى به الاَّ انْ يضع يده تحت خده ويقول في قرارة نفسه -هل كنت اقصد هذه الأفكار عندما كتبتُ كتابيَ هذا؟ كم انا محظوظ إذاً! قلتُ في قرارة نفسي يا ترى ماالسر الكامن خلف ذلك الهدوء الكبير الذي يتّصف به عمّ الادباء في كركوك؟ ما السر الكبير الذي يقف خلف حبه الكبير لأزقة كركوك وشوارعها ومناطقها وأشجارها خصوصاً الدفلى حيث يقول (كركوك تخطو الى يساري وهي تخطو الى يميني وانا اتدحرج بين نهرها وأحاول أن افهرس خريره وغنائه الربيعي وهدأته الخريفية وبين نيرانها التي نصها ذلك التصهال المموسق مع امتداد ليلها الخرافي لعبث الأحلام وأدغال الكلام) وأكاد اجزم بانَّ هذه الكلمات التي كتبها فاروق من أجل كركوك لن تجد نظريتها أبد الدهر! اذن ماالسر الذي يقف خلف تلك الكلمات الرائعة التي يكتبها بإيقاع موسيقي ستسمعه عندما تطالع كتبهُ وكأنك تستمع الى معزوفة ما بعد منتصف الليل؟ ما السر وراء نظراته التي تلج الى عمق قلوب شعراء وادباء كركوك ليطمئنهم انَّ حبه لهم كبير ومتساوٍ؟ السر انه وِلدَ في منطقة كانت تتصف بالحب والوئام جعلتْ منه انساناً خلوقاً وطيباً جداً وترعرع في كنف عائلة متعلمة ومثقفة تشتهر بالثقافة الشعبية ويقول (كانت والدتي حكاءة ماهرة ومجتهدة تحكي روايات عن الجن والمارد ونحن نستمع اليها وسط منقلة تهبنا حرارة ذات طعم خاص) وهي محط احترام الجميع فما كان منه اٍلاّ انْ يحافظَ ويصونَ سمعة عائلته الأدبية الواسعة بالسعي المتواصل في الدراسة وصولاً الى شهادة جامعية مرموقة بالإضافة لشهادات أدبية عالية المستوى( ٢٩ كتاباً والمئات من المقالات المنشورة وحقق هذا ليضيف سمة الأدب على إسم عائلته الكبيرة كما فعلَ شقيقه الدكتور فائق مصطفى قبله، كتب كثيراً عن مسقط رأسه جرتْ ميدان ( مضمار تتسابق به الخيالة)، ومنه (كل شي له نقيض في منطقتي حيث المقبرة ازاء البستان، الموت ازاء الحياة، الممكن ازاء اللاممكن، الطفولة ازاء الشيخوخة) ويقول ايضاً (كيف السبيل لإيقاف جريان السنين ونحن نذبل؟ وهل نستطيع زلق ساعات الزمن الزئبقية خارج الايام لتبقى الروح والجسد هذا الهناء البليل) ؟ فاروق أحبَّ كركوك كثيراً وخاصة خريفها وشتاءها حيث الأوراق المتناثرة في الشوارع والمطر الذي يمدهُ بالكثير من الطاقات الإشعاعية الرمادية ذات طنين موسيقي وكأنها معزوفة الناي الحزين، فاروق أحب كركوك كثيراً وخصوصاً بستان كاورباغي ملتع العوائل وكم كان حزنه شديداً عندما سيّجه المحتل! وحجزته الحكومة المحلية وحرمت الأهالي من نسيم أشجار الزيتون، ويقول (الشغيلة كانت تمر من هذا البستان بعد انتهاء عملهم في شركة نفط الشمال ليشعروا بالراحة من عملهم الشاق)، هكذا كتب مصطفى ليعلن عن حزنه. ووصف شارع المحطة (أشجار الدفلى الممتدة على جانبي الشارع المؤدي من ساحة العمال الى محطة قطار كركوك تستقبلك بنسيم ل ايضاهيه اي أريج في الدنيا ليقول لك انا كركوك وكنتُ احلم بها احياناً، فاروق أحبَّ كركوك كثيراً وكتب (كنت أسيرُ من جرت ميدان الى أحمد آغا مروراً بشارع الأوقاف الى جسر الشهداء ثم بجوار القلعة وصولاً الى إعدايتي في منطقة إمام قاسم ولا يمنعاني المطر والبرد القارس من ذلك مطلقاً لأنني احبُّ كركوك كثيراً وأتمتع بكل خطوة أخطو بها! كبير انت ايها العم مصطفى. فاروق تعايش مع جماعة كركوك الاولى وبحث عن قبر الحيدري في تعليم تپه، وله ذكريات معهم مازالت محفورة في ذاكرته القوية وجلس مع جان دمو في عرفة وتسامر مع جليل القيسي في محلة شوان ومع هاجسك في شارع سينما الحمراء وشرب الشاي مع حمزة حمامجى في زقاقهم الضيّق في القورية وزاملَ قحطان الهرمزلي، امّا نحن سنبقى مصريّن بأنه خير خلف لخير سلفٍ ونعتبره جماعة كركوك بكاملها وهو امتداد جميل لماضي اجمل ولن أكون مبالغاً لو قلت بانَّ من يزور بيته سيجد عبق الستينات وكأنك تجالسهم ( جماعة كركوك) وتستمع الى قصائدهم وطرفاتهم عن آخر شتيمة قالها جان دمّو وكيف اندهش والد الاخير عندما رأى مجموعة من مثقفي كركوك يسألون عن ولدهِ الصعلوك المتمرد غير المفيد لأهل بيته!!وكم كانت فرحتي كبيرة عندما وجدت ضيفه المرحوم زهدي داوودي احد أعضاء جماعة كركوك الاولى قبل خمس او أربع سنوات وهما يتباحثان في أمور جماعة خلقت الأدب الرفيع في كركوك.