ثمة دروب منسية وزوايا مضيئة في رواية «حارس خشب السكة» للكاتبة غادة المعايطة الصادرة حديثًا عن «الآن ناشرون وموزعون» في عمان.
تستهل الكاتبة الرواية باعتذارية رقيقة عن تأخر طباعة الكتاب لأربع سنوات وأكثر قليلًا، لكن كما يقال في المثل الدارج: «في كل تأخيرة خيرة»، فقد أضافت للمتن بعض الأحداث التي استجدت لتأخذ الرواية طزاجة وقائع الراهن الذي خيّم بظلاله على الجميع.
تتحدث الرواية عن الأثر وارتداداته الراهنة لسكة الحديد الحجازية، التي تبدأ من دمشق مرورا بالمدن الأردنية ومنها عمّان الزرقاء والمفرق ومعان وانتهاء بالمدينة المنورة.
وغدت معَّان محطة للحجاج من أقطار الوطن العربي وقت إنشاء المشروع الذي أقيم في مطلع القرن العشرين، وتم افتتاحه عام 1908، وتعرض للدمار إبّان الحرب العالمية الأولى عام 1916.
وتتحدث الروائية عن أشلاء السكة، وأضلاعها التي تحولت إلى «معرشات» وأسيجة للمزارع لتحكي تلك الأخشاب قصة رحلتها بتداعيات ذاكرة الكاتبة التي تسرد خلال ذلك طفولتها في قرية اللجون بمحافظة الكرك التي شهدت في المدينة في ذلك الوقت وتحديدا عام 1911 أول ثورة ضد الاستبداد العثماني.
وتترك الروائية تصنيف العمل في انتمائه الحقلي للنقاد لافتة إلى مقولة إدوارد غاليانو «لا أعرف إلى أي شكل أدبي ينتمي صوت الأصوات هذا، ليس مقتطفات أدبية مختارة، ولا أعرف إن كان رواية أو مقالة أو ملحمة شعرية أو شهادة أو تاريخًا»، مستدركة: «لا أؤمن بالحدود التي تفصل بين الأجناس استنادًا إلى ضباط جمارك الأدب». وكأنها تقول إن الرواية هي كل ذلك، وهي المعنى الحرفي للسرد في فضاءاته الحداثوية التي تجتمع فيها الفنون، تجتمع فيها
«تم افتتاح السكة عام 1908، لكنه تعرض للدمار إبّان الحرب العالمية الأولى عام 1916» الذاكرة مع المتخيل والوثيقة بالرواية الشفاهية، وتتبعات الأثر بالأشياء التي تحولها الكاتبة إلى كائنات تعيش بيننا وتنطق بقصصها وربما أوجاعها.
تقول الكاتبة المعايطة في الرواية التي تقع في 258 صفحة من القطع المتوسط: «لا بد من وجود دراما في كل نفس بشرية، رواية متسلسلة، حياتي الشخصية تخلو من الدراما بالمقاييس المعروفة من عناء وحرمان وفقر وجوع، وجميع المفردات التي تضعني في خانة أبطال المسلسلات، بل كنت شبه مغيبة في أسرة كبيرة تتكون من ست شقيقات وشقيقين».
وتستدخل الكاتبة بعض المفردات الدارجة من لهجة أهل الكرك في مواضع. وتتوقف في عدد من المحطات المكانية، ومنها عمان العاصمة التي تقول إنها «مليئة بالحكايات»، وتستعير خلال ذلك الكثير من العبارات الأدبية لعدد من الكتاب منهم شكسبير وهيبوليت تين، والقصائد التي تتصل بالأحداث المثيولوجية، سواء أكان ذلك في المتن النصي أو في مقدمة كل فصل في الرواية، وتعد مثل تلك الاقتباسات برأي الناقد الفرنسي جيرار جينيه جزءا من النص الذي يمثل رحلة في المعرفة تتوازى مع رحلاتها الكثيرة في غير دولة من العالم والتي تغني النص وتثري فضاءاته المعرفية.
وخلال تلك الرحلة تتحدث عن مدينة ترمبل الأميركية، ومكتبة عمها، وهي مكتبة شهيرة وسط البلد بعمان، مستعيدة ذكريات الطفولة التي زارته فيها وقت كان مقيما في رام الله وبيت لحم منتصف الستينيات من القرن الماضي ورحلتها مع الكتب، مستعيرة مشاهد من أفلام عالمية لإكمال الحكاية.
تقول: هي «حكايات في الكتب، منها ما نمرّ به مرور الكرام فتكون قراءة القفز، ومنها ما يثير الشغف ويلامس القلب، تختزنها الذاكرة»، ولكنها الحياة حكايتنا الكبيرة.
وتتحدث عن الشيخ عارف وخشب السكة مستعيدة الظروف التي أحاطت بإنشائها وخصوصًا في وقت أفول الدولة العثمانية، وظهور القوى الغربية الطامعة في الشرق العربي وإرث «الرجل المريض» كما كان يصفه الغرب، وتتوقف بين السرد والسينما في مقاربة لشخصية لورنس العرب الذي كان يظهر غير ما يبطن، وتستعير أبيات شعر كان يرددها الشيخ عارف الذي أنسن السكة التي تفرقت أضلاعها بين البيوت والأبوات والأسيجة.
وتقول بحس إنساني رقيق عن خشب السكة على لسان شخصية من شخصيات الرواية: «سنين طويلة وهو يحرسنا ويحمينا ويستقبل ضيوفنا، وأتخيله يدعو لهم بالسلامة، وحينما أخرج من البيت أضع يدي عليه وأدعو دعاء الخروج، وحينما عدت من الحج قبلته كواحد من العائلة».
إن رمزية الباب لا تتوقف عند المشاهدة اليومية في الدخول والخروج، بل فيما تحقق من أمان وطمأنينة للإنسان، والكرم لاستقبال الضيوف والجاه، فالأبواب هي عناوين المكان ووجوهه، ولعل ذلك الخشب الذي مات الشيخ عارف ولم يستطع جمعه، ينطوي على رمزية يقولها جاستون باشلار في كتابه «جماليات المكان»: «إن الإيماءات التي تجعلنا واعين بالأمان والحرية تنغرس جذورها في أعمق الوجود».
«حارس خشب السكة»: السرد إذ يؤنسن الأشياء
التعليقات مغلقة