المتورطون بالحرية..!

أعداد غير قليلة من العراقيين لم تصدق الاخبار التي تحدثت عن قرب زوال النظام المباد، ربيع العام 2003 مستعيدة بذلك الوقائع التراجيدية لما حصل له من تضعضع وهزيمة ماحقة بعد ما عرف بعاصفة الصحراء (في العام 1991)، والتي عصفت بكل عنتريات النظام الفاشوشية واجبرته على الاستسلام بذل لا مثيل له تحت خيمة صفوان. ولم يمر وقت طويل على الحرب الجديدة (أقل من ثلاثة اسابيع) حتى لاح شبح أول دبابة على أحد جسور العاصمة بغداد، ليعصف ذلك المشهد بكل مظاهر ما عرف بـ “جمهورية الخوف” ولم يتبقى في شوارعها سوى جماعات مشتتة من المتطوعين العرب والاجانب من الذين حرصوا على ان لا تفوتهم مشاهد “انتحار المغول عند أسوار بغداد” وباقي وعود مكتشف مفردة العلوج.
هكذا ومن دون مقدمات وجد العراقيون أنفسهم أمام الحلم الذي هدهدته مخيلاتهم المتعبة طويلا، حلم زوال الحكم المطلق لأكثر المخلوقات دونية ونذالة وخسة، ذلك المسخ الذي انتشلته القوات الاميركية مذعوراً من جحره الاخير. لكن منحة الاقدار هذه (الحرية) سرعان ما تحولت على أيدي فلول النظام المباد وواجهاته الجديدة، وحطام معارضيهم السابقين والشرائح الاكثر رشاقة وشراهة في مثل هذه المنعطفات الفوضوية في حياة المجتمعات والدول؛ الى محنة وسلسلة من الكوارث ما زالت تتواصل الى يومنا هذا.
قبل عام تقريبا خرجنا من محنة احتلال عصابات داعش لاكثر من ثلث الاراضي العراقية، وما رافق ذلك من خسائر بشرية ومادية وقيمية وانتهاكات لا مثيل لها في تاريخنا الحديث. وها نحن عند بداية العام 2019 وبعد مرور أكثر من ستة أشهر على اجراء الانتخابات البرلمانية (دورتها الرابعة) وممثلي عهد الحرية والديمقراطية ليسوا عاجزين عن اكمال التشكيلة الحكومية العتيدة وحسب، بل نجد غير القليل ممن قذفته الصدف الظالمة الى سنام السلطات، يعدون العدة لصناعة نسخ جديدة من “القادسيات” مستندين بذلك الى ارث عريق في مجال اشعال الحروب والحرائق المتخصصة بالتهام حياة ومصائر المكاريد من سكان هذا الوطن المبتلى بالشعوذة والتبعية والعنتريات الفارغة. علل كل هذا الاصرار في هدر واستنزاف ارواح الناس وثرواتهم وتدمير تطلعاتهم المشروعة، يكمن فيما وضعناه عنواناً لمقالنا هذا، لان من تلقف مقاليد هذه المنحة التاريخية (الحرية ومتطلبات العدالة الانتقالية) هم أبعد الخلق عن هذه المنظومة، التي انتقلت بسلالات بني آدم من عصور العبودية والمهانة والوصاية والاذلال الى ضفاف الحرية والكرامة والحداثة وحقوق الانسان. ومن يتابع خارطة طريق هذه الطبقة السياسية برمتها، سيجدها تحن في جوهر تشريعاتها وسياساتها وسلوكها ومقاصدها النهائية، الى ما كان عليه الحال قبل حقبة الفتح الديمقراطي المبين. فهم وبكل ما تعنيه هذه العبارة من معنى قد (تورطوا بالحرية) وهذا يفسر لنا سر كل هذا اللبس والغموض في المشهد الراهن، كما ان وعينا لمحنة القوم وورطتهم هذه تساعدنا على استيعاب ما ينتظرنا من هزائم مقبلة.
لقد انتج القوم ما يجيدونه من بضائع ومشاريع وعقائد وتنظيمات وشبكات اخطبوطية، امتدت الى غالبية ما تركه النظام المباد من أسلاب واطيان وحشود وحطام. لذلك نجدهم جميعا تقريبا (الكتل المتنفذة) تحقق الانتصار تلو الانتصار وسط هزائم شنيعة ولا مثيل لها تلحق بحاضر البلد ومستقبل شعوبه وأجياله المقبلة. هذه المفارقة التي وسمت مرحلتنا الانتقالية بورطتها العضال.
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة