يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 46
حوارات مع جرجيس فتح الله*
س: وماذا عن الزعم بأنه من أصل كردي؟
في حياة رجل السياسة الحديثة ، بتضارب المصالح وتعقيد الروابط يصعب جدا ان يعطى حيز للعاطفة ومنها الشعور بالانتمائية القومية. قد تكون القومية حجر الزاوية في النضال من اجل التحرر. ومع هذا لا تكون حافزا ومشجعا لاتخاذ القرارات السليمة والمنطقية. بغداد كانت منذ بنائها وما زالت قدرا هائلا يصب فيه مختلف الجنسيات مقذوفها وتستقبل الارحام نطفاتها. ولم يكن (النوري) من اولئك الذين احتفظت اسرهم البغدادية بشجرات انسابها كابرا عن كابر. فأبوه كما قيل موظف بسيط دخله يكاد لا يكفيه حاجته ويستر خلته والا ما بعث بابنه هذا الى المعاهد العسكرية ولأرسله الى المعاهد المدنية اسوة بأبناء الاسر الغنية البارزة. على انه وهوليس بسر- ارتبط بوشائج مصاهرة مضاعفة مع صديق العمر(جعفر العسكري) بزواج واحدهما من شقيقة الاخر. واذا كان ذا اصل كردي. فقد كما شاءت اكثرية الضباط الكرد العثمانيين الذين التحقوا بقوات (الشريف الحسين بن علي) عندما اعلن ثورته في 1915 على العثمانيين ثم من بعد ذلك بفيصل وهو ملك سورية ، فاستعربوا وال بهم الامر الى نكران قوميتهم . ولم يسأل احد (نوري) في مدى علمي عن قوميته واصله. وان حصل ذلك فسيقول لك انه عربي. ومقترحات نوري حول (الكرد) كما بسطها لمجلس الوزراء ، تنم عن تفهم واع للمسألة وتحسب بعيد النظر جدير بالاعجاب حقا ندر ان وجدناه لا عند المخضرمين امثاله ولا المحدثين الذين عقبوه. كما دل عليه تحليله التاريخي للمسألة الكردية الذي ورد في كتاب استقالته العجيب. وجدناه على دراية بإرهاصات ونتائج معاهدة (سيفر) وتفهم لثورات الشيخ محمود الحفيد وبالتعهد الدولي للعام 1932 كما اسلفنا. وكيف ان اهمال تطبيقه ادى الى تلك الثورات. كان وبعين نافذة الى المستقبل ، يتحسس ما سينجم عن اهمال حقوق الكرد في العراق من كوارث ومصائب. عجبت والله كيف بقي كتاب الاستقالة هذا لا يحظى بتقويم او حتى بتنويه عابر على خطورته.
س: ميزتم لنوري السعيد مرحلة ثانية من حياته السياسية. ما هي؟
تلك مرحلة لا اظنه سيحظى مني باحترام. تلك هي مرحلة الحرب الباردة بين الشرق والغرب. هذه الحرب سحقت تحتها كثيرا من الساسة اللامعين واساءت الى سمعات الاكثر وشوهت وبدلت من مصائر الاكثر ، وكانوا ضحايا لها من باب اولى قبل ان يقعوا فرائس بعضهم لبعض. و(نوري) كان واحدا من فرسان الحرب الباردة الكبار واللاعبين الرؤساء في حلبتها الشرق اوسطية. في هذا الصراع المحتدم بين العالم الاشتراكي الذي يقوده الاتحاد السوفياتي وبين عالم الغرب الذي تزعمته الولايات المتحدة- اتخذ (السعيد) موقفا ثابتا وانحاز بالعراق الى الغرب محاولا ان يجر كل ما امكنه من الدول الناطقة بالعربية الى معسكره. في حين تميز خصمه غريم المستقبل (عبد الناصر) بالمراوغة والمناورة بين المعسكرين. وجرفت السعيد موجة الدعاية السوفياتية التي صورت الحياة في ظل النظام الاشتراكي للطبقة المثقفة ، والجيل الجديد (التقدمي) في العراق- جنة من الجنان وقبله يرنو اليها كل محب لبلاده. وعجز عن بيان مقدار الكذب فيها كما عجز عن فضح كذبة اخرى وهي ان الانحياز الى الغرب انما هو جزء لا يتجزأ من سياسة الامبريالية ووجه جديد للاستعمار. واكمل هو تثبيت هذه الصورة بمبالغته في تقدير خطر اليسار على كيان الدولة التي شارك في بنائها. فاصدرت تلك القوانين والمراسيم الجائزة المعروفة. وادى به تجسيم الخطر الشيوعي لنفسه الى ارتكابه جريمة لا تغتفر باعدام اربعة او خمسة من قادة هذا الحزب زاد من بشاعتها واقع كونهم سجناء مثقلين باحكام سابقة.
والقى بنفسه وحظوظه في لجنة سياسة الاحلاف فألقى نفسه وجها لوجه امام غريم لا يستطيع مجاراته في عالم الدعاية والتهريج والضجيج الاعلامي. واذ بصورة جديدة تبرز لنوري السعيد ذلك السياسي الخادم للامبريالية ، المتحجر العقل ، الذي يقوده الانكليزي برسن ولم يكن كذلك وله معهم مواقف مشهودة. في هذه الفترة واعني بها فترة الحرب الباردة التي خاضها نوري السعيد وبانعكاساتها المدمرة على البلدان الناطقة بالعربية. لم يكن كما جاء وصفه بالاول اي مجرد رئيس حكومة من رؤساء يتعاقبون على دست الحكم وبتأثير في السياسة الخارجية والداخلية يكاد يكون روتينيا رتيبا لا فرق كبير بين واحد واخر ، بل بدا تقريبا فهو الموجه والشخصية المهيمنة اكان خارج الحكم ام داخله. وانعكست سياسته الخارجية على السياسة الداخلية ، ليلجأ في اخر المطاف وبعد تجربة انتفاضة العام 1952 الصاعقة الى التضييق على الحريات العامة ومطاردة ذوي العقائد السياسية (الهدامة بحسب تعبيره) وكتم انفاس المعارضة الديمقراطية بشكل لا عهد للعراق به من قبل ، متحوطا بجملة من القوانين والمراسيم التي كادت تشيع الشلل في الحياة الفكرية والحريات العامة.
عصفت به دوامة هذه الحرب الباردة وفقد بها كثيرا من موازنة وبعد نظر كانت موجة الدعاية السوفياتية كما ذكرت عاتية كاسحة لا بالعراق وحده بل في معظم البلاد الناطقة بالضاد وهي حقل (نوري) التجريبي واستقطبت تلك الدعاية عددا كثيرا من مشاهير الكتاب والمفكرين. ثم وفي هذه اللجة الطامية كان من سوء حظه مواجهة رسول من رسل القومية العربية الاقوياء ينافسه منافسة جدية على الصعيد القومي العربي وصعيد العلاقات الخارجية يقصر عن مجاراته في فن الضجيج والصخب الاعلاميين. لا سيما بالموقف الثابت غير المرن في انحيازه الى الغرب . بمقابل مناورات (عبد الناصر) وتقلب عينيه بين الشرق والغرب بشيء من البراعة واللاأخلاقية والدهاء وبدا (نوري) فيها سليب الحجة والمنطق بشكل يرثى له. لا سيما بعد تأميم هذا الزعيم قناة السويس (وهو ما كان نوري يهدد به قبل ثلاث سنوات)ثم انسحاب جيوش العدوان الثلاثي وهو الحدث الذي برعت وسائل اعلام ناصر في تسجيله نصرا. وانما كان خروجه من مأزقه وليد تلك الصدف التي حفل بها تاريخ البشر- كما فصلت في حديثي السابق عنه. وعزوا لنوري كذبا كما تبين- بانه كان يحث الغرب ويؤلبه شخصيا على الزعيم المصري.
س: اسمحوا لنا هنا بمقاطعتكم . قرأنا انه شجع رئيس الحكومة البريطانية انطوني ايدن عند اجتماعه به في 10 دواننغ ستريت على احباط عملية تأميم القناة التي انجزها الزعيم المصري.
ما اظنك تريد ان تعزو لنوري السعيد هذه القدرة في التأثير على سياسة دولتين عظميين كانكلترا وفرنسا ولا على اسرائيل وهي ثالثة دول العدوان ، في 1956. اخطاء هذا الرجل في معالجة شؤون الوطن وفي سياسة الشرق الادنى والاوسط كثيرة ، وهي ليست بحاجة الى مثل هذه الاكذوبة. فلماذا نزيدها بها؟
المصدر الاوحد لهذه المقولة كما يغلب على ظني هو (محمد حسنين هيكل) هذا الصحافي الناجح جدا ذو المقدرة التي لا تبارى على اختراع القصص المثيرة والوقائع السياسية الخيالية. وقد جئت بنماذج منها في الجزء الثاني من (العراق في عهد قاسم) . اريد التأكيد مرة اخرى انا لست في موقف الدفاع عن الرجل بل التقويم. واخطاؤه كثيرة ولا حاجة هناك الى الزيادة فيها وربما قالها في معرض حماسة وانا لا استطيع ان انفي او اثبت اقوالا قابلة للزيادة والنقصان. عفويا وكانت الحكومة البريطانية بحاجة الى تشجيع نوري عند اتخاذها قرار الغزو.
في نظري وبعد انقشاع غيوم الحرب الباردة ، وانكشاف السياسات العالمية خلال تلك الفترة التي ختمت بانهيار النظام السوفياتي وبالثورة الديمقراطية التي عمت البلاد الاشتراكية الدائرة في فلكه وتهافت تلك الدول على الدخول في حلف الاطلسي بعد ان كانت تناصبه العداء يبدو المؤرخ من الغباء والسخف بمكان ان يفضل حلف وارشو مثلا على حلف السنتو او ما يدعى بحلف بغداد بل الارتفاع بحلف وارشو. و التسامي به على الاحلاف الغربية المماثلة والمضادة فواحدها كان يريد تطويق الاخر وتغليب سياسته والجانبان كانا ينظران الى العالم الثالث او الدول النامية او ما شئت ان تسميها ومنها العراق والدول الناطقة بالعربية- بمثابة مناطق نفوذ جيدة وحقول تبذر فيها مفاهيمها. فالغرب يريدها لأحكام حلقة التطويق والشرق يعمل على احباط العملية بالتشنيع والتهريج العقائدي ، والتلويح بقميص عثمان اي خطر الدول الاستعمارية والامبريالية العالمية على مستقبل الدول النامية وما الى ذلك بمقابل الخطر الشيوعي العظيم على حريات الشعوب. ولا ادري اكان (نوري السعيد) يدري في اعماق نفسه بأن الخطر الذي جسمه للحزب الشيوعي العراقي لينحدر به الى سياسته القمعية للحريات العامة كان وهما خلابا وانه قدره على غير حقيقته باخلاص صاحب العقيدة لعقيدته ، ام انه اتخذه مرقاة لملاحقة ومطاردة المعارضة باوسع نطاقها كما بدت له في تظاهرات المعاهدة للعام 1948 ، وفي الانتفاضة الوطنية في العام 1952 . تلك الانتفاضة التي لم يسهم فيها الشيوعيون العراقيون الا اسهاما هامشيا. وهو يعلم كما يعلم الكثيرون انذاك انه ذلك الحزب كان من الضعف بحيث قصر اهتمام بقية باقية فيه ازالة الانشقاقات فيه وبناء كيانه الممزق. مشكلة هذا السياسي كانت اولا واخيرا انه مع ايمانه المشوش الغامض بالديمقراطية- كان يعتقد بأن الشعب العراقي لم يصل بعد الى المرحلة التي يمكن ان يمارس بها وفيها حرياته الديمقراطية اجل ومع ذلك كله فأن مهندس حلف المعاهدة المركزية هذا (الامبريالي الاستعماري الوغد الزنيم الحقير الكريه) واذهب في تسميته الى ما شئت. لم يكن في اي يوم من الايام اشد قسوة واعتى من اولئك الملائكة الاطهار الذين قمعوا بالنار والحديد وباسم الحرية والتقدمية والطوبائية الاشتراكية وبأسم (حلف وارشو) وبقوات حلف وارشو ثورات شعبية ديمقراطية على انظمة حكم الحزب الواحد القمعية المصادرة للحريات العامة. افي المانيا الشرقية ، او في بولندا او هنغاريا اوجيكوسلوفاكيا. والغرب بحلف الناتو والمعاهدة المركزية وغيرهما لم يتدخل وليته تدخل في انقلابات دول الشرق الادنى او ثوراته ان شئت . ولم يفرض الناتو نظام حكم معين على اي دولة في سورية والسودان واليمن والعراق ومصر. والمقام لا يتسع لايراد الامثلة بالزمان والمكان والحدث. وان كنت مصرا على امتحاني في هذه المعادلة فلتفعل في حوار اخر ان شئت واذ ذلك سترى كم عبث مؤرخو عصرنا بتاريخ البلاد الناطقة بالعربية. اتريد ان احدثك بقصة ذلك الامبريالي الاستعماري (الجنرال ديغول) وكيف امن للجزائر استقلالها؟ ام بثورة يوليو في مصر وكيف ساندها الامريكان؟ ام بحكاية استقلال مراكش؟ اتريد ان اريك كيف جنى المؤرخون وكتاب الوقائع التاريخية على مسيرة الحرية وعلى المفاهيم الديمقراطية ، وسبل التحرر القويمة بقلبهم الحقائق وتزييفهم المغازي؟
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012