صناديق السيسي

بعد انقطاع غير قصير عن تحطيم الأرقام القياسية في ميدان الديمقراطية ومواسم الانتخابات، استردت أم الدنيا (مصر) مأثرة الوصول الى ضفاف ذلك الرقم المطوب لمضاربنا المنحوسة، أي 99،99% من الأصوات، إذ أعلنت اللجنة المشرفة على إجراء الانتخابات الرئاسية المصرية؛ عن فوز الرئيس الحالي السيد عبد الفتاح السيسي بأكثر من 97% من الأصوات للدورة الانتخابية الحالية. هكذا يزهر “ربيع العرب” بإعادة تدوير البضائع السياسية والعقائدية وسكراب المنظومات القيمية، إذ برهنت النتائج والمعطيات منذ الإطاحة بسلطة الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، إن أم الدنيا أمام خيارين لا ثالث لهما؛ جماعة الإخوان أو جماعة العسكر، أو كما قال الماغوط (العمامة أو البوط العسكري). فعندما يطاح بحكم العسكر تشرع الأبواب أمام جماعة الإخوان المسلمين وشبكات اخطبوطهم المتسلل الى تفصيلات حياة المصريين، ليتلقفوا مقاليد الغنيمة (السلطة)، وعندما يكتشف المصريون الملامح الفعلية لهذه الجماعة وغاياتها المتناغمة والفردوس المفقود للجماعات الإرهابية والتكفيرية، ويشرعون بالتصدي لها، ينبري جنرالات المؤسسة العسكرية وسكان الثكنات لاسترداد الأمانة التاريخية من رفيقهم التاريخي، كما حصل مع الرئيس المخلوع محمد مرسي، وهكذا دواليك…
لا يحتاج المتابع الحصيف الى جهد كبير كي يصل الى حقيقة التخادم بين هذين المعسكرين (البوط والعمامة) إذ قدمت جماعة الإخوان عبر وقت قصير جداً من حكمها لمصر، خدمة لا تقدر بثمن لغريمها (الشكلي) المؤسسة العسكرية، بوصفها البديل الوحيد القادر على إنقاذ المصريين من المصائر التي تنتظرهم برفقة هذه الجماعة التي اندلق من رحمها كل سلالات التكفير والهجرة والقاعدة وداعش والبوكو حرام وغير ذلك من الهلوسات المميتة. كما أن خدمات الأنظمة العسكرية المتتالية التي هيمنت على مصر طوال سبعة عقود (1952-2018) وبالرغم من التعارض والاصطدامات بينهما، لا تقل عن خدمات الطرف الآخر، ومثل هذه العودة الى هذه الأرقام التي لا تمت بصلة لأي شكل من أشكال الديمقراطية ولعبة الصناديق، يقدم للجماعة المخلوعة كل ما تحتاجه لتأكيد مصداقية موقفها المناهض لسلطة العسكر. إن مثل هذه النتائج والأرقام التي أعلنت عنها اللجنة المشرفة على الانتخابات المصرية الأخيرة، تعد نكسة كبيرة لذلك المشوار من الاحتجاجات والنشاطات المناهضة للدكتاتورية بوجهيها (البوط والعمامة) وهي تؤشر الى أن المشوار أمام المصريين لأجل التغيير والإصلاح ما زال طويلاً وعسيراً، وأن هذه القوى التقليدية ما زالت قادرة على إدامة قواعد وأسس اللعبة التي تعيد تدوير نفس البضائع النافقة. ما يحصل في مصر حالياً، لا يوضح طبيعة المأزق الذي تمر به هذه الأمة العريقة وحسب، بل يؤكد عجزها في التصدي لتحديات ومتطلبات عصرها الواقعية، عبر امتلاك مؤسسات أخرى بمقدورها مواجهة هذين الورمين (العسكر وجماعة الإخوان) والخروج بالتالي من دوامة هذه الحلقة المميتة، الى المشاريع التي تنهض بمصر، الى حيث البناء والتنمية الشاملة على أساس قويم ومتين من الحداثة والتشريعات التي تنتصر لحقوق الإنسان وكرامته وحرياته. إن التجربة المصرية وغيرها من التجارب المشابهة لها، قد برهنت وبما لا يقبل الشك؛ على عجز وفشل الخيارات المنحدرة إلينا من كهوف القرن السابع الهجري وثكنات ما بعد الاستقلال، وحاجتنا التي لا تقبل التأجيل لشق الطريق بعيداً عن صناديقهم المدجنة..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة