انتصارات وديون

بعد حزمة “القادسيات” و”امهات المعارك ” وما رافقها من عواقب على شتى الأصعدة المادية والقيمية، وجد سكان هذا الوطن القديم أنفسهم بلا حول ولا قوة، حتى وصل الأمر الى ان تصبح عندهم فرصة ترك الوطن حلماً يداعب مخيلة الغالبية منهم بعد كل “انتصار” يتحقق على سطح مضاربنا المنكوبة. بعد سلسلة الحروب وفصلها الأخير “ام الحواسم” استأصل المشرط الخارجي الغدة المسؤولة عن ذلك النهج الكارثي والفزعات المسعورة، ليظهر للعالم كله حجم الفضائح والانتهاكات التي جرت والارقام الاسطورية من الديون المرافقة لكل تلك “الانتصارات”. من الطبيعي بعد كل ذلك المشوار المثقل بالآلام والاوجاع؛ ان ينمو ويترعرع في مخيلاتنا حلم الاقلاع عن كل ما يمت بصلة لتلك “الانتصارات”، لنلتحق بباقي الشعوب والامم التي هجرت مثل هذه الدروب المتخمة بثنائية “المنتصر والمهزوم”. لم يمر وقت طويل على زوال النظام المباد حتى تقاسم ورثته كل ما خلفه من اسلاب، ولم يستثنوا الرمزية وعلى الرأس منها، ذلك الاحتياطي الهائل من “الانتصارات”، التي يتم تداولها بينهم وفقاً لمعايير “الهويات القاتلة” والمتفق عليها في مدونات الصيغة المشوهة المعتمدة عراقياً عما يعرف بمرحلة العدالة الانتقالية.
لا أحد بمقدوره النيل أو التقليل من حجم التضحيات التي قدمها المقاتلون من مختلف الفصائل والصنوف في الحرب الاخيرة ضد رأس رمح الارهاب العالمي (داعش) دفاعاً عن كرامة الانسان والاوطان، وعن الانتصار الذي تحقق عبر تحرير كامل التراب العراقي من رجس تلك العصابات، لكن آثار وتبعات كل ذلك قد حفرت أخاديد اعمق في الوجع والضيم العراقي، حطام أكثر من البشر والمدن والفواتير المادية الباهضة، حيث قدرت المصادر الرسمية الكلفة الاولية لثلاث سنوات من تلك الحرب بـ 100 مليار دولار اميركي، ولنا ان نتخيل حجم المشاريع والخدمات التي يمكن ان يقدمها هذا المبلغ لشعوب أقدم الاوطان، فيما لو كان طريقه بعيداً عن هوس “الانتصارات”. هذا المبلغ وغيره من المبالغ التي سددناها على هذا السبيل الاهوج، كان بمقدورها اعادة رسم ملامح العراق عبر المئات من المدن وشبكات الطرق والخدمات الحديثة، كان بمقدورها حماية اطفالنا والاجيال الجديدة من مواجهة كل هذا الاذلال الذي يترقبهم في “المدارس” ابنية وخدمات ومناهج وملاكات، كان بمقدورها رفع الحيف عن ملايين العاطلين وشبه العاطلين عن العمل، كان بمقدورها توفير ملاذات آمنة وكريمة لملايين الارامل والايتام التي خلفتها تلك “الانتصارات” كان بامكانها توفير مستشفيات ومناخات وخدمات صحية لا تقل عما توفره المجتمعات والدول التي وصلت لسن التكليف الحضاري لحيواناتها، هذا وغيره الكثير من شروط الحياة، التي تتدافع الملايين من سكان مضاربنا المنحوسة للوصول الى مطاراتها وموانئها ومدنها عبر بحار من الاهوال والآلام.
بالرغم من الحمولات المغايرة لـ “انتصارنا” الاخير على داعش والمتجحفلين معها بارهاب، الا ان المعطيات الاولية تشير الى اصرار البعض للمطالبة بحقوقه وامتيازاته بوصفه “منتصراً” وان تحقق له ذلك وفقاً لمناخات التشرذم المهيمنة على المشهد الراهن؛ فان ذلك سيدعونا جميعاً لانتظار جولة اخرى من النزاعات يسترد فيها “المهزوم الحالي” حقوقه المهدورة عبر “انتصار” آخر مرصع بقائمة طويلة من الديون والنحيب والعويل..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة