طفح الشهادات

إحدى أكثر الظواهر التي لفتت انتباهي في عراق ما بعد “التغيير” والتي لم أجد لها مثيلاً في جميع تجارب الأمم التي عاشت مثل هذه المراحل الانتقالية؛ هو هذا الشغف الخرافي بالحصول على “الشهادة” من شتى الدرجات والمستويات، هذا الشغف الجنوني اكتسح كل المفاصل والسلطات، ولم يتخلف عنه غير القليل ممن رمته الاقدار العابثة على سنام اعلى السلطات (البرلمان) حيث حرص العديد منهم على الجمع بين مسؤولياته التشريعية والرقابية العليا والمواظبة على مطالعة دروسه وحضور الامتحانات وغير ذلك من المتطلبات الضرورية للحصول على الشهادة الجامعية الاولية ومن ثم الى بقية الشهادات المفضية لحرف الدال..! بعد اربعة عشر عاماً من انطلاق هذا الماراثون، يجد العراقيون أنفسهم وقد تصدروا قائمة البلدان التي تمتلك أكبر عدد من الحاصلين على الشهادات الجامعية، حيث نسبة الحاصلين على الدكتوراه يفوق ما لدى أهل اليابان منها. وهذه المفارقة وحدها تكفي لأن تردعنا قليلاً من مثل هذه الاندفاعات التي لا تمت للعلم والابتكار والتنمية والإبداع بصلة. في اليابان وغيرها من البلدان التي وصلت لسن التكليف الحضاري، لا يدغدغ مخيلاتهم حلم الحصول على وظيفة حكومية، حيث الأرقام تتحدث عن أكثر من مليون مؤسسة وشركة خاصة، يديرها رجال ونساء يعون جيداً حاجات السوق المتغيرة والمتعاظمة (سيرة سيكيرو هوندا صانع إحدى أهم الثورات في عالم السيارات على سبيل المثال لا الحصر)، ملاكات لا تنقطع عن تطور العلوم والحاجات، يغترفون العلم والخبرة العملية من النشاط اليومي المباشر وعبر التطور الذاتي الذي اتاحته ثورة التقنيات والاتصالات الحديثة، من دون الحاجة لمثل هذه الاكسسوارات (الشهادات والعناوين) التي اكتشفتها مضاربنا المنحوسة بعد مرحلة “الفوضى” التي لم تخلق لنا غير هذه الهوايات المميتة.
كل هذا لم يأت من فراغ، حيث تمتد جذوره الى حقبة ذلك المخلوق الذي حصل على شهادته الجامعية ورهن إشارته من اجتمعت فيه كل السلطات (مجلس قيادة الثورة) شراهة تتوجت لاحقاً بتقليد نفسه أعلى رتبة عسكرية، وهو الشخص الذي لم يؤد الخدمة الإلزامية اصلاً. ذلك النهج الذي رسخ على مدى اربعة عقود منظومة قيم ومعايير وتقاليد، ستبقى مرافقة لنا طويلاً، بهمة هذه المخلوقات المهروشة بكروش الشهادات. كم هائل من “الشهادات” يصعب على أكثر الميكروسكوبات دقة وتطوراً ان تعثر على أي أثر لها في ميادين الإنتاج المادي والمعرفي والقيمي، كل ما في الأمر أن مجسات القوم قد استشعرت فراغاً هائلا تركته ملاكات العصر الزيتوني بعد ظهور شبح أول دبابة أجنبية على أحد جسور بغداد ربيع العام 2003. لقد أهدر محظوظو ما بعد ذلك “التغيير” أعظم فرصة تاريخية لصناعة انعطافة جذرية في حياة الدولة والمجتمع العراقي، عندما هجرت غالبية الملاكات المدنية والعسكرية الوظائف الحكومية لأسباب عديدة على رأسها الجانب الاقتصادي، مما وفر شروطاً مناسبة لترشيق الوظائف الحكومية ودعم المشاريع الخاصة أساس تطور المجتمعات والدول، لكن السكان الجدد للمنطقة الخضراء كان لهم رأي آخر تقبع في قعر أولوياته مثل تلك الاهتمامات والهموم، لذلك أطلقت صفارتهم الإشارة لانطلاق ماراثونات لا تخلف وراءها غير هذا الطفح من “الشهادات” وأهازيج عسكرة الدولة والمجتمع وفصول جديدة لجدولة الديون..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة