بقلم الدكتور عبد اللطيف جمال رشيد
بدءاً وبمناسبة انعقاد الدورة البرلمانية الجديدة, نتقدم بالتهنئة الحارة لكل السادة النواب في البرلمان العراقي الجديد. وتزامنا مع هذا الحدث المهم نورد بعض الملاحظات الخاصة بالقوانين النافذة والتي نرى من المناسب طرحها للمناقشة بغية الإستفادة من تجربتنا السياسية مما بعد عام 2003.
فقد بقيت مشكلة القوانين المتوارثة وتحكّمها بالحياة والتعاملات واحدة من أعقد المشكلات التي تواجه فرص بناء الدولة الجديدة في العراق بعد سقوط النظام الدكتاتوري عام 2003 والشروع بالنظام الديمقراطي.
ولعل من البديهيات القول إن طبيعة النظام السياسي في كل مكان في العالم تقرره طبيعة القوانين والتشريعات التي تضبط العلاقة ما بين المواطن والدولة ومن ثم يأتي دور أسلوب تطبيق القوانين ونظام إدارة السلطات في تقرير طبيعة النظام السياسي للدولة.
فمبدئياً لا يمكن أن نقول عن دولة إنها ديمقراطية لمجرد أن دستورها النافذ يؤكد على الخيار الديمقراطي.
الديمقراطية هي مجموعة قوانين وتشريعات تنظم إدارة الدولة وأسلوب حكمها وصلة مواطنيها بالسلطات، ومن دون هذه القوانين التي تستلهم قيم الديمقراطية ولو بدرجات متفاوتة حسب طبيعة النظام ومدى التقدم في الديمقراطية لا يمكن القول إن البلد في المسار الديمقراطي الصحيح.
لكن الحياة، سواء في دولة ديمقراطية أو غير ديمقراطية، لا يجري تنظيمها بمجرد توفر القوانين العامة للصلة بين المواطن والدولة وإنما هناك الكثير من القوانين والتشريعات التي تنظم حياة المواطنين وتنتظم بموجبها حقوقهم ومسؤولياتهم إزاء بعضهم البعض وإزاء الدولة، وهي قوانين من الأهمية بحيث تستحيل الحياة إلى مجرد فوضى من دونها.
ولا يكفي للدولة والمجتمع والأفراد أن تتوفر هناك مثل هذه القوانين وأن يجري العمل بموجبها مهما كانت تلك القوانين في ظرفها عادلة وصالحة لتنظيم العلاقات على اسس العدالة، فلا بد لكل التشريعات والقوانين من مراجعات دائمة للوقوف على مدى صلاحيتها ومدى قدرتها على استيعاب التغييرات والتحولات الجارية في المجتمع والحياة.
تكون المسؤولية في معظم الأحيان أكثر تعقيداً حين يكون المجتمع في طور الانتقال من نظام سياسي شمولي واستبدادي إلى نظام ديمقراطي قائم على الحريات والعدل الاجتماعي، فقد تكون مسؤولية المراجعة الجذرية للقوانين من أعظم أولويات سلطات العهد الجديد الذي من المستحيل أن يكون ديمقراطيا فعلا من دون قوانين جديدة تنظم الحياة والمعاملات على هذا الأساس وبالاعتماد على هذه الطبيعة للنظام السياسي الجديد للدولة.
وقد واجهنا في العراق الجديد وما زلنا نواجه هذه المشكلة وما ينتج عنها عن مشكلات كثيرة نعيشها يوميا ونتابعها لكن التحرك من أجل وضع حد لها هو أقل مما مطلوب حتى الآن.
والجانب الكبير في مشكلة العراقيين، كإدارات حكومية وتشريعية وقضائية ومواطنين، هي في أن هذه التركة القانونية الثقيلة هي تركة بعضها هرم ومرت عليه عقود وبعضها مر عليه أكثر من قرن من دون أن تجري مراجعته أو تعديله، كما في بعض القوانين والتعاليم ذات الأصل العثماني خصوصاً في الأراضي.
وفي الحقيقة, لم تكن هناك حاجة لمثل هذه المراجعات والتعديلات التشريعية الضرورية في فترة النظام الدكتاتوري, وذلك لأن (قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل) حلت محل التشريع, ومن المستغرب حقاً أن العبارة الآنفة لاتزال سارية في أغلب القرارات الصادرة عن أعلى الهيئات في الدولة لتؤكد سريان مفعول هذا (المجلس المنحل) في جسم الدولة. فضلاً عن أن الكثير من قرارات العهود السابقة كالعثمانية, الملكية, الجمهورية وطبعاً البعثية لاتزال نافذة لغاية الآن.
وإلى جنب القوانين والقرارات الموروثة التي لم تلغ ولم تعدل والتي تعيق الكثير من التعاملات اليومية وتؤثِّر سلباً على أهم المفاصل الحياتية كإدارة الموارد المالية والتجارة وحركة المال في الأسواق ومعاملات التجار والمقاولين وتغمط الكثير من الحقوق، فإن الحاجة المستمرة إلى تشريعات كثيرة مستحدثة فرضتها الحياة وتقدمها وفرضتها طبيعة النظام الديمقراطي لم تزل هي أيضا دون مستوى الاهتمام المطلوب من الجهات التشريعية. وهنا نلفت النظر الى التخلف الكبير الذي تشهده المعاملات المصرفية واعتماد أنظمة البنوك الأساليب البدائية القديمة ماخلق فرقاً شاسعاً بيننا وبين المجتمع المتقدم الذي قطع أشواطاً هائلة في مجال الحوكمة الألكترونية وتحويل أغلب إن لم نقل جميع التداولات المالية وما يتصل بالحسابات المصرفية الى عالم الرقميات.
نطالب الكتل السياسية إيلاء الإهتمام الجدي بقضية إلغاء القوانين المعرقلة لعمل مختلف إدارات الدولة وفي مقدمتها رئاسة مجلس الوزراء من خلال تشكيل لجنة أو هيئة مشتركة من مختصين وخبراء عن السلطات البرلمانية والتنفيذية والقضائية تتولى مهمة حصر القوانين وتأثيراتها على الحياة العامة وعلى اعاقة عمل السلطات أو إعاقة تأمين حقوق المواطنين لتعمل هذه اللجنة المقترحة على وضع الحلول البديلة وتقديمها للتشريع وبموافقة البرلمان عبر إطارٍ دستوري هو جزء من حل عملي لمشكلة إن لم نتجاوزها فإن الضرر والمعاناة سيستمران وسنفقد الكثير من فرص العمل والبناء.