المعروف عن النظام الديمقراطي وكما قال أحد جهابذة السياسة في التأريخ الحديث ونستون تشرشل (أنها أفضل النظم السيئة) وقد برهنت فعلاً على أنها أفضل السبل وأنجعها لفك الاشتباكات بين البشر (أفراداً وجماعات) وهذا ما يمكن الاطلاع عليه بيسر عند المقارنة بحال البلدان التي اعتصمت بالنهج الديمقراطي وغيرها ممن جربت مناهج سياسية وآيديولوجية مغايرة. هذه الحقيقة تدعونا للتوقف عند ما حصل لنا مع نسختنا المحلية للنظام الديمقراطي وعلل عجزه في مهمته المجربة أممياً عندما نتابع مجريات ما حصل لنا في هذه التجربة الفتية، سنتعرف على محنة الصناديق مع قدراتنا الفعلية لا الاستعراضية، إاذ لم تشذ الديمقراطية وصناديقها عما هو سائد لدينا من قيم وعقائد وهلوسات، وقد شاهدنا جميعاً كيف استجابت بسرعة وحماسة لثوابتنا الجليلة، التي فرضت عليها التخلي عن روحها وكل ما يتعلق بمنظومتها القيمية، للدخول الى مضاربنا برفقة آلياتها فقط، وهذا ما أفصح عنه ممثلي أبرز الكتل المتصدرة لجولات الاقتراع التي أجريت بعد زوال النظام المباد. لذلك نشاهدهم اليوم بوصفهم الأشد حماسة واندفاعاً لخوض الانتخابات في مواعيدها المقررة، والتي دخلت بهمتهم الى نادي (الخطوط الحمر) بعد أن كانت “الديمقراطية” وفقاً لفقه الإسلامويون من شتى الميول والاتجاهات تعدّ بدعة تجرهم في نهاية المطاف الى الجحيم.
لأنها لم تعد بدعة، بعد أن أسلمت الروح وظلت (بطرك آلياتها) لتتبوأ موقعها في خدمة حيتان التشرذم والركود، وهذا ما يفسر سر العشق والاهتمام الذي تحظى به من قبل القوى والكتل التي تقف خلف إخفاقاتنا المتتالية في شتى الحقول والمجالات المادية والقيمية. البعض ممن أدمن على قذف الآخر بكل موبقات وتداعيات ذلك الفشل العضال، يدعو الى تغيير المفوضية المستقلة للانتخابات، كونها مسؤولة عن نوع المعطيات والأرقام التي تتقيئها الصناديق، على رأس كل موسم انتخابي، والبعض الآخر يرى بالنظام الرئاسي خشبة خلاص من مأزقنا السياسي الحالي، وغير ذلك من العطابات والحلول التي تعدّ نوعاً من الهروب الى الأمام في أحسن الاحوال. الديمقراطية بالصيغة الحالية (بطرك آلياتها) في مجتمع يخضع فيه المنتسبين للأجهزة الأمنية والحكومية لسطوة العرف العشائري وهراوته المجربة “مطلوب عشائرياً”، وتترنح في أماكن أخرى أمام صفعات الفصائل المسلحة التي تتبختر في شوارع وساحات العاصمة والمدن الكبرى، وغير ذلك من مبتكرات نسختنا الديمقراطية؛ لا يمكن أن تقدم لنا أكثر وأفضل مما تعرفنا عليه طوال الجولات الانتخابية السابقة. هذه النسخة المشوهة والمعاقة من الديمقراطية (كتشريعات وأحزاب ومناخات ومناهج وملاكات..) عاجزة عن انتشالنا من دوامة الحلقات المفرغة التي انحدرنا إليها، وهي في أفضل أحوالها لن تقدم سوى تقليد بائس للتجربة اللبنانية والتي حولت بلدا من أجمل البلدان وأكثرها تطلعاً صوب المستقبل الى بلد آخر يتدحرج بمعية هذه “الديمقراطية” المعاقة الى المجهول. إن انسداد الآفاق الحالي تقف خلفه حزمة من العوامل والمصالح والقوى، على رأسها الطبقة السياسية المهيمنة على المشهد الراهن، والتي تقف بالمرصاد لأي محاولة تضع نصب عينيها مهمة إصلاح وتقويم مسار التجربة الديمقراطية الفتية. لذلك ومع مثل هذه المناخات والشروط لن يكون بوسع الصناديق سوى إعادة تدوير ما في جوفها والذي جربناه، على رأس كل موسم وما يرافقه من فزعات انتخابية..
جمال جصاني
شيزوفرينيا الصناديق
التعليقات مغلقة