انتشرت بقوة في الآونة الأخيرة، حرفة صناعة الأكاذيب والترويج لها ولا سيما عبر شبكات التواصل الاجتماعي، التي تحظى باهتمام لا مثيل له من قبل شتى طبقات المجتمع، إذ يتم نشر الأخبار الملفقة والكاذبة بعد تزويدها بكل ما يساعد على جعلها مقبولة وسهلة الهضم لقطاعات واسعة من المتلقين، ولا سيما أولئك الذين لم يعتادوا على تقليب ما يرمى اليهم من تلك البضائع الملغمة. مئات المواقع والمنابر والصفحات والمدونات لا تكل ولا تمل من تلقف وترويج، مثل تلك البضائع المميتة الى طيف واسع من الجمهور المدمن على تلقفها بشغف. ومن الأهمية بمكان الإشارة الى عراقة هذه الحرفة (صناعة الأكاذيب وتسويقها) إذ يحتل أساطينها مكانة سامية في مدوناتنا وتأريخنا الذي أسهموا في تدبيج قسمه الأعظم. لذلك نجد أنفسنا (سكان هذه المضارب المنكوبة بجهابذة الكذب) بمواجهة صراع محسوم سلفاً في التعرف على حقيقة ماضينا وما جرى فيه من حوادث؛ لأن التأريخ أو التواريخ الموضوعة لنا تقف بالمرصاد لمثل هذه التطلعات المارقة..!
من خلال التعرف على مثل ذلك الإرث والتقاليد، يمكن سبر غور كل هذه الشعبية والاستقبال الحافل الذي تتلقاه الأخبار والقصص المفبركة والأكاذيب عندنا، عندما يحظر أي شكل من أشكال النشاط الهادف لمعرفة حقيقة ما جرى في ماضينا، والتعرف على الأبطال الحقيقيين لتلك الأزمنة البعيدة؛ فمن الطبيعي أن يتسلل الى حاضرنا كل هذا الطفح من الافتراءات والأكاذيب وأرذل خلق الله الى المفاصل الحيوية للدولة والمجتمع. خطورة هذه الحرفة التي وضعناها عنواناً لعمودنا الحالي، تكمن في كونها لا تستند الى متخصصين ذوي خبرة طويلة في هذا المجال وحسب، بل الى قاعدة واسعة تعيد تدويرها وتسويقها ببلاهة لا تحسد عليها، حيث البضائع التي يتلاقفونها ويبثونها تلحق في واقع الأمر أبلغ الضرر بمصالحهم في نهاية المطاف. كما أن الموقف اللامسؤول من استمرار وانتشار هذا الوباء المعرفي والقيمي، قد ساعد قوى الفساد والإرهاب على بسط وترسيخ هيمنتها على تفصيلات حياة الناس، لا سيما وأن الجميع يمارس ذلك ضد الجميع (القوى المتنفذة) وبذلك يتاح للفاسدين من شتى الأطراف فرصة الإفلات من التهم الصحيحة الموجهة لهم، بوصف كل ذلك جزءا من حملات ظالمة لطالما تعرضوا اليها.
إن عجزنا العضال في التعاطي مع تحديات عصرنا الواقعية، وفي الانعتاق من ربقة هذا المشهد الغرائبي الذي انحدرنا اليه، يعود في الكثير منه الى ما يحظى به سدنة هذه الحرفة من مكانة ومنزلة في المفاصل الحيوية للدولة والمجتمع. أما سر هذه القوة وحيويتها فيكمن في الواجهات التي تعمل من خلالها وقدرتها على إخفاء هويتها وملامحها الحقيقية، وكما يقول ميشيل فوكو: (إن نجاح السلطة يتناسب مع ما تتمكن من إخفائه فيما يتعلق بآلياتها وقدراتها على ممارسة آيديولوجيتها)، والنجاح الساحق الذي تحققه شتى السلطات لدينا لا يمكن أن يتناطح عليه كبشان، حيث القدرة ارتقت الى مستوى العبقرية في إخفاء غاياتهم الشريرة خلف وابل كثيف من القنابل الدخانية والخطابات الشعبوية والديماغوجية وغير ذلك مما توفره تقنيات التواصل والتسويق الحداثوية، والتي تم تسخير قسم كبير منها لخدمة تقاليدنا العريقة في الكذب والتلفيق..
جمال جصاني
تلفيق وتسويق الأكاذيب
التعليقات مغلقة