كريم شفيق
حاولت الأنظمة السياسية مصادرة أشكال الإبداع وتنميط قوالبه، لجهة فرض انموذج رسمي يكون رديفاً للسلطة. وفي إطار تلك الشرعية الموقتة والمصنوعة يتم نبذ الأشكال الأخرى، المتمردة والهجينة، والتي لا تخضع لآليات الذوق العام، كما لا تنسجم مع الخطاب الرسمي.
عام 1923، كتب الأديب الروسي، مكسيم غوركي، تعليقاً مؤثراً، انتقد فيه القرار الذي اتخذته ناديجيداً كروبسكايا، زوجة لينين، حين قامت بحظر مجموعة هائلة من الكتب والمؤلفات السياسية والأدبية والفكرية، فحجبت عن أجيال كاملة أسماء مهمة في الفلسفة والفن، مثل، أندريه بلاتونوف وباسترناك.
وعد صاحب رواية: «الأم»، إحدى أبرز النماذج الأدبية التي عبرت عن ثورة البلاشفة، أنه: «من الأنباء التي تصيب العقل بالذهول أن كروبسكايا منعت في روسيا قراءة أفلاطون، وكانط، وشوبنهاور، والفيلسوف فلاديمير سولوفيوف، ونيتشه، وتولستوي، وجون ريسكين، ونيكولاي ليسكوف».
حالة المنع والحصار على الإبداع والتضييق على النشاط الإنساني، بخاصة، ما يتصل بالفكر والأيديولوجيا والفن تسبق الحقبة السوفياتية، ويترافق الجدل والصراع بينهما مع عهود سياسية وأنظمة عديدة.
وحاولت الأنظمة السياسية مصادرة أشكال الإبداع وتنميط قوالبه، لجهة فرض نموذج رسمي يكون رديفاً للسلطة، يخدم أغراضها ويعبر عن مصالحها السياسية والطبقية. وفي إطار تلك الشرعية الموقتة والمصنوعة يتم نبذ الأشكال الأخرى، المتمردة والهجينة، والتي لا تخضع لآليات الذوق العام، كما لا تنسجم مع الخطاب الرسمي.
وعلى أثر الخضوع والضغط المتواصلين لقوة الخطاب وضغط السلطة وأدواتها، تتضاءل مساحة التجريب. إذ تتعقب كل محاولات التفلت من تلك القبضة التي تخدش شرعيتها.
الفن الشعبي المصري
سادت راهناً، حملة أخلاقية شرسة ضد فن أغاني المهرجانات الشعبية في مصر، عموماً، وتحديداً، ضد أغنية: «بنت الجيران»، التي أداها الفنان الشعبي، حسن شاكوش. وقد حازت انتشاراً غير محدود، إذ احتلت المركز الثاني عالمياً لأكثر الأغاني استماعاً عبر تطبيق «ساوند كلاوند»، وحصل شاكوش على درع «يوتيوب» الذهبي، بعدما تخطت قناته حاجز المليون، وتجاوز عدد مشاهدي الأغنية، فقط، المئة مليون مشاهدة.
ليست المرة الأولى، التي يخرج فيها حراس الفن والأنبياء المسلحون للدفاع عن السلم الموسيقي ضد ما يعدونه «فناً منحطاً»، ويفرضون وصايتهم الأخلاقية والطبقية على الغناء واللحن والصوت والكلمة، فقد وقعت، قبل عامين، أزمة لفنان المهرجانات، حمو بيكا، ووصلت تداعياتها إلى البرلمان المصري، حيث أحيلت طلبات إحاطة من نواب إلى لجنة الثقافة والإعلام بمجلس النواب، بهدف التصدي إلى ما وصفوه بـ»ظاهرة إفساد الذوق العام والإسفاف والابتذال في الأغاني الشعبية وتأثير ذلك في المجتمع».
كما تقدم أحد المحامين بإنذار قانوني ضد الفنان، هاني شاكر، نقيب المهن الموسيقية، تطالبه بعدم السماح بمنح تصاريح العمل الموسيقي لكل من الفنانين، حمو بيكا ومجدي شطة، مطربي المهرجانات. وعدّت الدعوى القضائية منح نقيب الموسيقيين تلك التصاريح بمنزلة إخلال بواجبات وظيفته، ما يترتب عليه إفساد الذوق العام.
تبدو أغاني المهرجانات في عشوائيتها وعدم انضباطها، وما تحمله من صخب ورعونة، ترفض الانصياع وتقاوم تشويه السلطة التي تعمد إلى وصمها ونبذها، بينما تنشطر في انفجارات متتالية تحصد «ضحاياها» أو متلقيها الجدد، فتتسع قاعدتها الجماهيرية، وتتمدد بكل الحيل والإغراءات مهما كانت مشروعيتها، وتقاوم ذلك الغشاء الرقيق الذي يحمي أصوات «زمن الفن الجميل» وورثته الشرعيين.
وبغض النظر عن معايير النقد الفني الملتزم، ومحاولة تأبيد مرجعيات شمولية لتحديد ذائقة الأفراد ومعاييرها المثالية التي لا ينبغي الخروج عليها، ووضع أنساق مغلقة تصونها من الخرق والعبث، وتعيين حارس عليها، فإن الأغنية، أي أغنية، وريث شرعي لجملة قيم وأنماط إنتاج، يرزح تحت وطأتها أفراده.
كما أن أغاني المهرجانات التي تصعد خارج الأطر الفنية التقليدية، ولا تتحرى تعبيرات جمالية في صيغ جديدة، إنما تحشد ذخيرتها اللغوية التي تتردد في العشوائيات، والأحياء الشعبية، بحالتها التي تبدو عليها من ضعف وإعياء شديدين، وتجعلها تتمدد أمامنا جسداً من لحم ودم يطويه التعب ويعبر عن شيخوخته وهزاله، تفضح الواقع وبالقدر ذاته تكشف عن هوية المنتسبين له.
وفي ظل محاولات الفن الآتي من الهامش المتمرد على العمارة الفنية للسلطة، وتشكيل هندسة مغايرة، تخشى الأخيرة من سقوط قيمها السياسية وعناصرها القومية التي تؤمم بها أفرادها وتعزلهم عن أي تأثيرات أخرى، وبالتالي، تحتمي بالخطاب الأخلاقي.
بيد أن عدم الاحتفاء ببعض النماذج الفنية في التراث الغنائي الشعبي المصري والفلكلوري، والذي يقع في دائرة النسيان والتجاهل المتعمدين، وكثير منه تعرض للإهمال والفقد، يعود إلى الأسباب السياسية ذاتها التي تسعى إلى تهذيب الأفراد وضبطهم ووضعهم تحت السيادة المباشرة.
فن الطقطوقة
ففي مطلع القرن العشرين، انتشر في مصر فن «الطقوطقة»، أحد الأشكال الغنائية الجريئة التي سادت في تلك الفترة، وكسر تابوهات الدين والجنس والسياسة، إذ قدمت أغنيات تمعن في الغزل الصريح، والأوصاف الجنسية والإباحية، من دون مواراة أو تورية، وتتحدث عن تفاصيل شعبية رائجة، ارتبطت بأفراح الأقاليم والدلتا المصرية، مثل، فض غشاء البكارة في الطقس الشعبي المصري المعروف بـ»الدخلة البلدي»، كما غنت بهية الحملاوي في طقطوقة: «زفة العروس».
وفي هذه الطقطوقة الشعبية تقوم المغنية بهية الحملاوي بوصف إغرائي لجسد العروسة، فتقول: «جبينك هلال شعبان، وبطنك عجين خمران، وأفخادك عمدان حمام، يا أخويا افرش ونام يا وعدي مفيش كدا أبداً».
وفي هذه الصورة الملحمية والشبقية تتقاطع أصوات مسجلة لدخول العريس، الذي ينتهي به الحال إلى الإعلان عن عفة زوجته وبكارتها مع سقوط قطرات الدم، ويختتم التسجيل بأن العروسة: «دمها مثل الورد وعقبى للجميع».
تعد الطقوطقة التي ارتبطت بأسماء مهمة، في التلحين أو الغناء أو الشعر، كأم كلثوم، والشيخ زكريا أحمد، ومحمد عبد الوهاب، فناً مصرياً خالصاً، بعكس أشكال فنية أخرى وافدة، تأثرت ببيئتها الخارجية، كالموال، مثلاً. بيد أنها اختفت تماماً، منذ ثورة تموز/ يوليو 1952، وإجراءات لإعادة تشكيل منظومة القيم السياسية والأخلاقية والفنية.
وغنت أم كلثوم قبل دولة يوليو، طقطوقة: «الخلاعة والدلاعة مذهبي»، كما غنى سيد درويش: «على قد ما الليل يطول»، ومثلهما، الفنانة سميحة البغدادية التي شدت بصوتها أغنية: «على سرير النوم دلعني».
ويعد الشيخ يونس القاضي، الشاعر وشيخ المؤلفين المصريين الذي كتب نشيد مصر الوطني: «بلادي بلادي»، هو نفسه مؤلف كلمات الكثير من الطقاطيق ومن أشهرها: «بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة» التي غنتها منيرة المهدية، وكذا، «ارخي الستارة اللي في ريحنا أحسن جيرانا تجرحنا».
وأكثر أغنيات منيرة المهدية جرأة كانت: «قمرة يا أمورة، يا محني ديل العصفورة، إن كانت خايف من جوزي، حشاش وواخد داتورة، وإن كنت خايف من البواب، أعمى ورجليه مكسورة، وإن كنت تايه عن بيتنا بيتنا قصاده دحدورة وإن كنت تايه عن اسمي، اسمي منيرة الغندورة».
وعلى الرغم من أن هذا الشكل الغنائي أمسى جزءاً من ذاكرة الموسيقى والغناء في مصر، لكنه وقع تحت تأثير حملات السياسة الدعائية ومضامينها القيمية والأخلاقية، التي فرضت حصاراً ضدها واستأصلت وجودها، منذ دولة يوليو، في إطار بعث تقاليدها الخاصة فيما عرف بـ»حفظ التراث والفلكلور».
بيد أن تلك النماذج، برغم حملات التطهير الواسعة والاستبعاد ما زالت تجد لنفسها حضوراً في البيئات الشعبية والريفية، سيما الأفراح في صعيد مصر وريفها، إذ لم تفلح الدولة في وقف انتشارها ومحو وجودها. ومثلما احتفظت الذاكرة الشعبية بأغنيات، مثل: «يا منجد علي المرتبة واعمل حساب الشقلبة»، مر عليها نحو قرنين من الزمان، ظهرت موجة جديدة تغني: «كعبو، كعبو، حبيبي وأنا ألاعبو».
- عن موقع درج