ما جرى يوم الخميس المصادف 12/12/2019 في ساحة الوثبة، وبغض النظر عن سيل الروايات التي تناولت ذلك الحدث المشين وفقاً لزوايا النظر الخاصة بها؛ يعد ردة قيمية واخلاقية تعيد للاذهان نوع وطبيعة التحديات الفعلية التي أخفق العراقيون جميعاً في مواجهتها، أي ذلك الارث من ترسانة الاحقاد والاجرام والممارسات المدججة بكل انواع الخسة والدونية، والذي مثلت حقبة “جمهورية الخوف” سنامه الأعلى. لقد حملت الساحة التي شهدت أحداث ذلك العمل الوحشي والاجرامي، أسم الوثبة زمن العنفوان الوطني والحضاري، حيث كانت مركزاً لانطلاق تظاهرات واحتجاجات العراقيين في الاربعينيات من القرن المنصرم، نشاطات وضعت نصب عينيها صناعة عراق جديد، متحرر من مخلفات وموروثات عصور العبودية والذل والاستبداد. لقد مثل مشهد قتل ذلك الفتى الصغير والتمثيل بجثته ومن ثم تعليقها على عمود الكهرباء، وسط حشود انشغلت غالبيتها بتصوير ذلك ومن دون أدنى شعور بوجع من عقل أو ضمير؛ بمثابة نكسة كبيرة لما هدهده أحرار هذا الوطن من مشاريع وتطلعات وقيم. باكورة ردود الافعال الاممية جاءت عبر تغريدة سفير الاتحاد الاوروبي في العراق مارتن هوث والتي قال فيها: “أشعر بالذهول والاشمئزاز للأحداث المشينة التي جرت اليوم في ساحة الوثبة”.
ان الاصرار على التعاطي مع مثل هذا الحدث المأساوي من مواقع التمترس الحالية، والمرور عليه بخفة عبر سيل من تراشق التهم بين قوى التشرذم وبورصة تصفية الحسابات بين الاطراف المتناهشة عند أطراف الوليمة الأزلية؛ سيمهد الطريق أمام المزيد من مثل هذه الانتهاكات الوحشية، وما يتجحفل معها من خطابات وشعارات وهتافات واجندات تعيد انتاج الحضيض عند مفترق الطرق. المعطيات الفعلية على أرض الواقع، لا تقدم لنا أية اشارة على جدية ما جاء من ردود أفعال حكومية وقضائية حول ما جرى في ساحة الوثبة، وعن استعراضات الحزم والقوة التي لم تعرف عن تلك الاجهزة لاسباب بنيوية يعرفها كل متابع منصف لعراق ما بعد “التغيير”. كما ان ساحات التظاهر وبالرغم من ادانتها لتلك الممارسات الوحشية وتاكيدها على سلمية نشاطها الاحتجاجي، الا انها ما زالت تفتقد للقيادة الموحدة والقادرة على ادارة دفة الاحتجاجات بعيداً عن المسارب والممارسات والمنزلقات الخطرة. ومثل هذا الخلل الذي اشرنا اليه مبكراً سيصبح مميتاً مع مرور الوقت، ان لم تتخذ قرارات شجاعة ومسؤولة لتفادي ذلك.
لقد آن الاوان لأصحاب المطالب العادلة والواقعية والمشروعة؛ كي يدركوا نوع التحديات السياسية والقيمية لهذه المعركة الطويلة والمريرة، والى أهمية وضرورة صياغة رؤيتهم ومشروعهم بوصفه امتداداً لأفضل وأروع ما سطره العراقيون في الكفاح من اجل الحرية والعدالة الاجتماعية والحقوق المتساوية للجميع من دون تمييز. وما حادثة السنك الاخيرة الا صرخة حادة لأجل الاسراع بفرز المواقع والاصطفافات، والعمل بشكل واضح ومستقل عن الاجندات والمشاريع وسكراب العقائد الظلامية وحطام المخلوقات التي تسللت وتمددت في ساحات التظاهر والنشاطات الاحتجاجية في بغداد وباقي المحافظات العراقية. ان عملية فرز المواقع هذه ستمثل البداية الصحيحة لتفكيك الالتباس في المشهد الراهن، وتعرية احصنة طروادة ومن ثم الاطاحة بمساحيقها وكشف ملامحها الفعلية المعادية لاي تغيير جدي في حال واحوال هذا الوطن المنكوب، ومثل هذه المبادرات ممكنة اليوم وقد تكون متاخرة جداً غداً…
جمال جصاني