كه يلان مُحمد
يقولُ الفيلسوف الوجودي ألبير كامو في كتابه «أسطورة سيزيف» أنَّ التفكير هو أن نتعلمَ من جديد كيف ترى وكيف نوجه إدراكنا.تنعكسُ ظلال هذا الكوجيتو كاموي في مؤلفاته الروائية إذ يناقشُ صاحب (الطاعون) مفاهيم وجودية ورؤى فلسفية في براح الرواية.وبذلك يكملُ الأدب الفلسفة لدى كامو فهو يقولُ «إذا أردت أن تكون فيلسوفاً فاكتب الرواية « لذا فإن مفاتيح فلسفته مبثوثة في رواياته يشاركهُ في ذلك غريمه الفكري «جان بول سارتر» مع فارق أنَّ المشروع الفلسفي لدى الأخير قد إتكأ أكثر على عناوين فكرية بحتة صارت علامة للسارترية يعبرُ مؤلف (الوجود والعدم) في حواره مع سيمون دوبوفوار عن رغبته لتحقيق الخلود الأدبي عن طريق الأدب ويضيفُ لافتاً إلى أن الفلسفة ليست بذات قيمة مطلقة وذلك لأنَّ التقلبات التاريخية تلقى بكلكلها على قيمة الفلسفة.ويبدو أنَّ سارتر محقاً في هذا الرأي لأنَّ القاريء يستسيغُ الفلسفة أكثر عندما تلتحمُ بالشكل الأدبي لاتزال الغثيان والغريب والدوامة وكاليغولا تتداول على نطاق واسع وتُعدُ من أعمال ملهمة فيما لايحظى ما يكونُ في وعاء فلسفي مجرد بمستوى عالٍ من المقروئية.مايهمُ ألبير كامو ويشتغلُ عليه هو سؤال الحرية والمشروطيات التي تحد من رغبة الإنسان وتطلعاته.هذا إضافة إلى إنكبابه على ثنائيات «الحياة والموت ،السعادة واليأس ،الطهر والفُسق ، الإخلاص والبراءة والرغبة التدميرية الكامنة في الحرب يتناولُ كل ذلك في روايته (السقوط) الصادرة من دار نينوى فما يضمهُ هذا العمل عبارةُ عن تأمل فلسفي من خلال نقاش مع قرين ينحته الراوي المسترسل في سرده بضمير الأول.
جدل فلسفي
يتحول مقهى كائن في مدينة إمستردام إلى منصةٍ لحوار فلسفي إذ تردُ عبارات تنمُ عن قدر الإنسان بأن يعيش حياته المُعتادة وبالتالي لايدركُ معاناة الغربة ومن ثُمَّ ينقلُ الراوي ما يعجبه من كلام صديقه حيث يقولُ «لك أن تأخذ شيأً أو تتركه» كما يستبطنُ مايعتملُ في صدره من الحنين إلى الإنسان البدائي إلى أن يلمحَ إلى طبيعة المدينة ومواصفات الإنسان المُعاصر الذي يجامع ويقرأ الصحف على حد قوله يعرفُ الراوي نفسه بأنَّه محامٍ تائبُ ولم يكن إختيار هذه المهنة للشخصية الرئيسة في الرواية إعتباطاً بل أنَّ ذلك يناسبُ المسلك السردي المُتسم بصيغة إستجوابية.فضلاً عن إجراء المقارنة بين سكان هولندا والشعوب الأوروبية الأخرى مايعني وجود إدراك حاد بالفوارق لدى المُتكلم مع مضي السرد يبدأُ استجواب الراوي جان بابتيست كلامانس للمقابل وبذلك تعتمدُ الرواية بأكملها على بنية السؤال.حيثُ يريد معرفة مايمتلكه وموقفه من الفقراء والدين ويمررُ في شريط السرد بعض الأحداث كان شاهداً عليها إذ يحكي قصة سيدة عجوز حين خيرها الضابط الألماني بإختيار أحدأبنائها ليطلق عليه النار.طبعاً هذا المشهد يضمرُ إشكالية وجودية وهي إستحالةالتعامل مع قيمة الإنسان بمنطق السلعة فإن مايبحثُ عنه المجرمُ هو شرعنة القتل .إذ ذاك يضيفُ المزيد إلى سجل ضحاياه كما يستعيدُ المحامي سيرة الشخص الذي تميز بصفات إنسانية عاد إلى قريته أثناء الحرب كتب على باب بيته «مهما كان المكان الذي أتيت منه تعال وأنت على السعة والرحب»غير أن تلك النزعة الإنسانية لاتحميه من شرارة الحرب.وما يخفف ملل جان بابتيست كلامانس هو المارة الذين تزدحمُ بهم أرصفة الطرقات. يستمرُ وصفُ مكونات المدينة قبل أن ينحو السرد منحى ذاتياً وتنفتحُ مفاصل الرواية على ماعاشه المحامي التائب في باريس وتجاربه مع المهنة مشيراً إلى النماذج البشرية التي تكفل بالدفاع عنها.وماكان مدججاً به من القناعة بأنَّه على الحق فبرأيه لو تم نزع سلاح الرضى والشخصية والمكانة من الإنسان يتحول إلى كلاب مزمجرة.وفي ذات السياق يذكر أسلوبه في ممارسة المهنة إذ ترفع على الرشوة ولم يأخذ الأموال من الفقراء.زد على ذلك كان يندفع إلى مساعدة المنكوبين.فكان يتمتعُ بذلك واعتبرها فضيلة كما تستشفُ ميلاً نتشوياً لدي الراوي وهو لايروق له إلا القمم الجرداء.وفي مقلب آخر من الرواية يضعك كامو أمام مفارقة صحوة الشعور عندما يحل الموتُ إذ يتضاعف حبنا للأصدقاء الذين غادرونا.ويزداد اعجابُنا بالأساتذة الذين غيبهم الموت ولم يعد صوتهم مسموعاً.فبنظر كامو أن الإنسان لايمكنه إلا أن يحب نفسه أولاً ومن ثمَّ يتعاطف مع الآخر ويشتهي مشاهدة المأساة.وللإبانة عن عن صحة هذه الآراء يضرب على لسان الراوي حكايات وقصص.
مصير مشترك
يتقمصُ كامو دور المحلل النفسي في مقاطع من الرواية وذلك حين يضيء أنانية الكائن البشري وساديته حيث يقول بأن المرء لايستطيعُ الإستمرار في العيش مع الآخرين من دون أن يتحكم فيهم ومايتوصل إليه بناءً على هذا المبدأ أن كل إنسان يحتاج إلى العبيد مثلما يحتاج إلى الهواء النقي.والأهم فيما يكتشفه ألبير كامو ويثير حوله الأسئلة هو هل يحسنُ الإنسان في تصرفاته من الإقتناع وبدافع إنساني محض أو أن كل مايبدر منا ماهو إلا تصنع ويعطفُ على ذلك بالحديث عن مفهوم الإخلاص والحقيقة فبرأيه أنَّ المطلوب هو إشباع الرغبة وليس الحقيقة وهذا مايكون واضحاً في التعامل مع الآخر. يظهر كامو دور الواقع في تشيكل قرارات الإنسان إلى جانب العامل الغريزي وهكذا يقدمُ الفليلسوف الوجودي عصارة تأملاته من خلال شخصية روائية وفي إطار إعترافات الراوي ترى جانباً آخر من التكوين الإنساني وهو تحوله نحو لجة الملذات وغالباً مايقع ذلك نتيجة اليأس من الحب إذ يكون البديلُ هو الإنسياق وراء الفسق بوصفه نوعاً من الخلود يغيبُ فيه الأمل ومن المعروف أن كامو كان معجباً بأبيقور لذا فمن الطبيعي أن يتسللً طيف فيلسوف اللذة إلى مؤلفاته كان يراودُ بطل كامو الحب الكامل للجسد والقلب بأكمله في عناق لاينتهي.زيادة على ذلك يعاني جان من الإغتراب وذلك ما يتمثلُ في عبارة «إن عبء الأيام مخيف بالنسبة لمن هو بدون إله بدون سيد» من الواضح أن النزعة الإنسانية هي ثيمة أساسية في أعمال كامو إذ يعودُ المحامي التائب في الفقرة الأخيرة من إعترافاته إلى لحظة إنتحار فتاة مجهولة بينما كان يعبرُ الجسر منتشياً بغرامياته يراها مرتدية الأسود إذ يلفته شكلها لكنه يمضي وما أن يبتعدَ حتى يتناهى إليه صوت إرتطام الجسم بالماء والمؤثر هو مايتمناه الراوي بأن يعيشَ هذه اللحظة مرة أخرى ليتمكن من إنقاذ الفتاة وفي ذلك يكون إنقاذاً لنفسه من تأنيب الضمير.هنا تكمنُ رسالة كامو عن ترابط المصير البشري وما يعطي القيمة والمعنى للأفكار هو حياة الإنسان ولاتضيفُ البطولةُ شيأً إلى البشرية إذا كلفتها الدمار والخراب ومايميز كامو عن غيره هو رفضه للتأدلج والتدجين وكان مدركاً لقساوة ومرارة أن يصبحَ الواحدُ إنساناً على حد تعبير بطل مسرحيته «كاليغولا»