كه يلان محمد
باب الطباشير أول عمل للروائي العراقي أحمد سعداوي بعد روايته (فرنكشتاين في بغداد) التي ذاع صيتها ونالت جائزة البوكر العربية لسنة 2014وذلك بقدر مايكون دعماً لكاتبها يشكلُ تحدياً له في الوقت نفسه مايلي بعده يجبُ أن يكونَ إضافة جديدة لتجربته الإبداعية ولايكون مماثلاً لما حجز له موقعاً في صف الكُتاب المميزين، قد تكون هناك فكرة مبثوثة في نسيج الأعمال الروائية تُمثلُ رؤية الكاتب ويُبني عليها عالمه الإبداعي وما يجنبهُ من التكرار هو القدرة على إجتراح التشكيلات السردية والتأثيث لمناخات روائية جديدة إذ يجبُ أن يكون هذا الأمرُ جزءاً من إستراتيجية الكتابة لدى الروائي حتى لايهوى في مزالق التكرار وإعادة إنتاج صور مُتشابهة ونحن نقول ذلك نؤكدُ على أنّ إختلاف البيئات والحاضنة المكانية وتركيبة الشخصيات ليس من مؤشرات القدرة على معالجات جديدة لثيمات وأفكار سبق أنَّ إشتغل عليها كثيرُمن الروائيين بقدر ما أنَّ المسألة متوقفة على أساليب العرض وآلية بناء وحدات الرواية وهذا مايشدُ المتلقي إلى متابعة العمل،يوظف صاحب (البلد الجميل) في روايته الجديدة الصادرة من دار الجمل 2017تقنيات مُختلفة،كما تتسع (باب الطباشير) لإصوات سردية مُتعددة إذ ترى الأحداث من وجهات نظر مُتباينة،الأكثرمن ذلك يمتدُ الخطُ الزمني للرواية على مدار عقدين وخمس سنوات من تاريخ العراق إذ تجدُ إحالات لتحولات سياسية وإجتماعية قد شهدها البلدُ إذ أن كل ذلك له تمثلات في شخصية الفرد العراقي، يتجاور في هذا العمل النمط الكابوسي والهذياني والفنتازي المنبثق من الأساطير مع الواقعي والتاريخي تنطلق حركة السردِ بمايرويه علي ناجي عن نفسه وتجاربه العاطفية لمرافقيه ويذكر أسماء بعض زملائه في كلية الفنون كما يستعيد تفاصيل اليوم الذي رافق فيه زملاءه الى مدينة الألعاب حيثُ جمعته بليلى حميد غريمته في الفكر كابينة واحدة داخل لعبة الأخطبوط الحديدية حيث طوقه سحر ليل التي تذكره تموجات شعرها بتسريحة شعر الفنانة هند كامل،يُبدو أنَّ أحمد سعداوي متابع للسينما لذلك كثيراً مايشبه بطلات رواياته بالفنانات إذ يقرب لك صورة شخصية نادية في (البلدالجميل) بأنها مثل الفنانة المصرية مديحة كامل. يذكرُ أن ليل حميد كلما تظهر في سياق الرواية تعطي زخماً وفعاليةً للوقائع والأحداث وتَمُدُ علي بالطاقة بحيثُ يخرج من متاهاته. هكذا ينتهي الفصل الأول من دون أن تعرف سبب وجود الشخصية الرئيسة التي يسندُ إليها دور الراوي في السجن،غير أن المتلقي يتعرف على تركيبة شخصية علي ناجي فهو شخص إنطوائي عرف وسط أصدقائه بأنه نبي،ومن ثُم يتضح لك مازج ب(علي) إلى السجن فالأخير يراعي جمعية المنتحرين التي تضم عددا من الشبان الذين قرروا أن ينتحروا في مطلع ألفية جديدة،وبعدما يخرجُ من السجن بفعل سقوط النظام في 2003يشتغلُ في المحطات الإذاعية ويتزوج شاناز الكردية جدير بالإشارة أن حضور القوميات الأُخرى في روايات أحمد سعداوي وتلميح إلى الأحياء والأماكن التي يقيمُ فيها غير العرب في بغداد أصبح عنصراً ثابتاً.
قاريء التعاويذ
تبدأُ حلقة أُخرى من حياة (علي ناجي) عندما ينتقلُ إلى إذاعة الموقف لتقديم برنامج تتسع دائرة متابعيه كون المقدمُ ناطقاً بلهجة لاذعة ضد السياسيين وذلك ما يؤدي إلى تعاظم نقمة أصحاب النفوذ لدرجة تلقى تهديدات بالمقابل ساند راعي الإذاعة المقيم بديتروت (علي) وحثه على التمسك بنهجه الهجائي.لكن بعدما يتسلم (علي) الدفتر الذي يضم التعويذات السبع من الدكتور واصف عبد الحي عالم متخصص في الآثار السومرية، يتحول برنامجه إلى منبر لقراءة تلك التعاويذ،وهي تكون بمنزلة المتن في اللعبة السردية يتدرج الراوي في توظيفها إذ إكتشف الدكتور واصف هذه التعاويذ منقوشة بخطوط بسمارية في جرةِ مكسورة وهذا نوع من تقنية ميتا السرد التي لجأُ إليها أحمد السعداوي في عمله السابق (أنَّه يحلمُ ويلعب ويموت).قراءة التعاويذ عبر أثير الإذاعة توصله بليلى حميد من جديد، لكن الإنصراف عن السب والشتم لايبعدُ الخطر عن علي بل يطلق مجهولُ النار عليه ومن هنا يتغير مسار الرواية حين يكون بطله واقعاً بين الحياة والموت إذ يلفُ الغموضُ حول هذا الحادث حيثُ تكثرُ الإفتراضات حول هوية القاتل ولاتنجلي الضبابية بالنسبة للمتلقي إلى أن ينتقلُ خيط السرد إلى شقيق أمير داغر الذي سبق أن إلتقى ب(علي) وإعترف للأخير بأنه كان يبحث عنه ليأخذ منه ثأر أخيه.
بين منزلتين
يدخلُ في حالة الغيبوبة وبهذا تنشأ عوالم جديدة يصحبُك فيها الراوي إلى مايجري فيها من الأحداث الكابوسية إذ تزول الفواصل بين الأزمنة وتستحضر الشخصيات في أشكال مختلفة تتوالي الصور والمشاهدُ والحوارات على شاشة اللاوعي ويلتبس الأمر حول دور الراوي الذي لايشعرُ به القارىء إلا كمنظم لوحدات سردية،مع أنه في البداية نتعرف على من يقوم بوظيفة السارد (محمد سخان) فالأخير من أسرى الحرب ممرض في المبنى الذي يرقدُ فيه علي لكن سرعان مايغيبه إحتشاد الشخصيات الأُخرى،إذ تتغير المعادلاتُ في العوالم المتراكمة وتختلف الإفتراضات من عالم إلى عالم آخر تارة تسمع عن إجراء الإصلاحات في بنية النظام السابق ما جنبه من السقوط كما هناك تلميح لما وقع بعد سنة 2003تارة أخرى مع تحوير في التواريخ،فضلا عن ذلك يجنحُ السردُ إلى حقل الخيال العلمي وذلك حينما تجدُ تفسيراً آخر لما نسميه الأساطير ضمن تيار السرد وفي هذا الإطار تردُ جمل وملفوظات تعيدك إلى عتبة العنوان والنصوص الإستهلالية مثل الإشارة إلى ديوان جوزيف برودسكي إذ تتضح لك علاقة القول المُقْتَبَس من هذا الشاعر بأجواء الرواية التي هي عبارة عن طبقات من عوالم غرائبية،جانبُ آخر من هذه الرحلة الغرائبية يتمثلُ في تسنم شخصية عبدالعظيم منصب ئاسة الجمهورية ويكون علي مستشاره الخاص يتوسط بين الزعيم وزوجته ليلى.إضافة إلى ذلك هناك تهكم بالعملية السياسية في العراق ومحاولة عرض الوضع السياسي مغلفاً بكوميديا سوداء يصلُ سوءُ الأحوال لدرجة يتم إنشاء حكومة في المنفي تُهيمينُ على العراق وتنفردُ بإدارة قطاع النفط ويكونُ علي أحد موظفي الحكومة الجديدة,كما تستمرُ اللقاءات بين الدكتور واصف وعلي ومن ثُمَّ يُخبَرُ علي بأن الدكتور هو وراء الخرائب والإقتتال الدائر بين الفرقاء العراقيين، بجانب ذلك هناك إشاراتُ إلى ظهور تنظيم داعش وسيطرته على مساحات واسعة في وسط العراق هكذا ما إنفك علي يتجولُ في عوالم متنافرة ،إلى أن يجد أخوه عمار نفسه في مفترق الطرق إما أن يبقى علي حيا محيطاً بالأجهزة الطبية أو ينزع الأسلاك مجازفاً عما إذا كان يعيشُ أو يلفظُ أنفاسه الأخيرة مع الإبانة لما يعتملُ في أعماق الأخ الصغير.
توظيف الميثولوجيا
هناك ميلُ شديد لتوظيف الأساطير ،والنصوص المتوارثة من الحضارات السحيقة في المؤلفات الروائية الصادرة مؤخراً وتبدو هذه الرغبة أكثر وضوحاً في الروايات العراقية التي تتناثر في أعطافها المُقتبسات والإستشهادات من الملاحم والميثولوجيا الحضارية، لايكتفي أحمد سعداوي بتضفير الأقوال المتكوبة باللغة السومرية أو مايوهم بإنه نصوص مترجمة اللغة المسمارية بل يجمع مايُشَكِلُ خريطة العراق العقائدية والمذهبية إذ يلوذ عمار بالأدعية الشيعية والسنية واللجوء إلى شعائر الأديان والملل الأخرى من المسيحية والصابئة والإيزيدية وغيرها طلباً لشفاء أخيه فعلاً يستعيدُ علي وعيه ويريدُ أن يتأكد مما شاهده في رحلته العجائبية وفي هذا ما يحيلك إلى إيمان المتصوفة كما يذكرك برواية أم قنديل وبطلها الذي لايخرجُ من أزمته إلا بعدما يقتنع بضرورة الجمع بين إيمان الشرق وعلم الغرب، هذا العمل موزع بين واحد وعشرين فصلاً ومايغلب على الرواية هو نفس اللامعقول الذي صار سمةً غالبةً في الروايات العراقية .