لقد كشفت الاحتجاجات الأخيرة وما تم تمريره داخلها من شعارات وهتافات ولا سيما منها النسخة المستوردة من ربيع العرب “الشعب يريد اسقاط النظام”؛ عن حجم غربة ومحنة أحد أفضل ما توصلت له البشرية من أنظمة سياسية لفك الاشتباكات بين عيال الله، أي النظام الاتحادي البرلماني والتي وهبته الصدفة لسكان هذا الوطن المنكوب ربيع العام 2003. وسط عتمة المشهد لعراق ما بعد “التغيير” وما ضخته الماكنة الاعلامية الضخمة لاعداء التجربة الفتية من جهة واشباه الاحزاب السياسية والجماعات التي تلقفت مقاليد امور ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية؛ من خطابات ديماغوجية واجابات وتحليلات قشرية لقضايا بنيوية غاية في التعقيد، يجد العراقيون انفسهم في حيرة من امرهم وما نضح عن هذا النظام الجديد، حيث تم افراغ غالبية مؤسساته وهيئاته وتشريعاته من روحها ووظائفها المخصصة لخدمة الشأن العام. لقد نبهنا مبكراً الى العواقب الوخيمة لمثل هذه الصيغة السياسية الراقية عندما تقع بعهدة قوى ومصالح وعقائد، اعلنت منذ اليوم الاول لتورطها في التجربة الديمقراطية الفتية؛ انها “مع آليات الديمقراطية لا مع روحها وفلسفتها” ومع مثل هذا التناقض البنيوي وصلت التجربة الى لحظة الانفجار، فلا ديمقراطية من دون أحزاب ديمقراطية، ومؤسسات وتشريعات تنتصر لها.
ان بروز ظاهرة القناصون في الاحتجاجات الاخيرة، والذين اغتالوا وبدم بارد العشرات من المحتجين الشباب وعدد من عناصر الجيش والامن، تؤكد ما حذرنا منه مرارا وتكرارا في كتاباتنا ونشاطاتنا الاعلامية الاخرى؛ عن حاجة التجربة الجديدة لاجهزة وفلسفة امن جديدة تضع نصب عينيها مسؤولية الدفاع عن الحقوق الدستورية للعراقيين جميعا ومن دون تمييز على اساس الرطانة والخرقة والهلوسات. انها فضيحة من العيار الثقيل وستتحول كل العطابات التقليدية التي ادمنت عليها السلطات الحالية في التعاطي مع مثل هذه الانتهاكات المستمرة، الى وبال وخيم على مستقبل ووجود لا التجربة الفتية وحدها بل وجود الوطن ووحدته. يمكن تفهم الدوافع التي تقف خلف الجهات والقوى التي تدعوا بوعي لـ “اسقاط النظام” فقد تضرروا بشدة من وجوده واستمراره، لكن ان تندفع قطاعات واسعة من شريحة الشباب وراء تلك الهتافات الديماغوجية، يعني التفريط بكل تضحياتهم وحماستهم لصالح من الحق بهم وباسلافهم افدح الكوارث والاهوال.
الجيل الجديد من العراقيين هو اليوم بامس الحاجة الى فك عزلة وغربة النظام الديمقراطي الجديد، وازاحة أو تقليص دور الكتل والجماعات والعقائد التي اثقلت مركب التجربة الديمقراطية بكل الموبقات المتنافرة وقيمه المناصرة لكرامة البشر وحقوقه وحرياته. أما من يدعونكم الى دعم عودة النظام الرئاسي والحنين لعنتريات الماضي وانتظار ظهور “المنقذ الضرورة” فهم آخر من يهتم لآلامكم وتطلعاتكم المشروعة في العيش الحر والكريم. لقد طفحت على وغف الاحداث العديد من الكتابات التي تصور ما يجري وكأنه يمثل قطيعة وارث وتقاليد العمل والنشاط السياسي والثقافي والاجتماعي في هذا الوطن، وان الحماسة والاندفاع وغير ذلك مما يختص به عمر الشباب؛ كافية لاجتراح المآثر والانتصارات، وهذا أخطر ما يمكن ان تستعينوا به من هلوسات هذا النوع من عجائز السياسة الذين الحقوا أفدح الاضرار بحاضر ومستقبل البلد. ليس امامكم من خيار سوى الانتصار للنظام الديمقراطي وتحريره من قبضة الكتل التي تلقفته، وان تكونوا ورثة لكل ماهو مشرق في كفاح العراقيين من أجل الديمقراطية والكرامة والحريات…
جمال جصاني