عرف سكان هذا الوطن المنكوب بالهدر الدائم للحقوق والكرامة والحريات؛ أنواع ومستويات لا مثيل لها من الضيم والظلم، وقد مثلت حقبة “جمهورية الخوف” ذروة ذلك الانحدار، حيف لم تنج منه غالبية شرائح المجتمع، ولن نجافي الحقيقة ان وضعنا فئة الاطفال على رأس تلك الشرائح التي تعرضت لاشدها قسوة، ولا سيما بعد سلسلة الحروب وما تبعها من آثار وعواقب وخيمة.
وعوضاً من ان يحتل ذلك الملف (الطفولة) مكان الصدارة لدى من تنطع لمقاليد امور ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية، الا ان الاولويات القاتلة لحيتان حقبة الفتح الديمقراطي المبين، أجبرت عربة “التغيير” على الاستدارة الى نوع آخر من الهموم والاهتمامات تقبع في قعرها، مثل تلك الهموم “البطرانة” أي الالتفات لمن لا ناصر لهم؛ والذي اشارت لهم مفوضية حقوق الانسان في بيانها الاخير (بان 80% من الاطفال العراقيين يتعرضون للتعنيف..)، هذا التصريح الذي جاء متزامناً وسلسلة الحوادث الأخيرة لاعمال العنف الفضيعة التي تعرض لها الاطفال وبنحو خاص من قبل ما يفترض انهم أقرب الناس اليهم، كما في مثال الطفلة ذات الاعوام الثلاث (سكينة) والتي تعرضت للضرب لحد الموت على يد والديها.
مثل هذه الاستباحات لما يمثل اساس تطور الامم او انحطاطها (الموقف من الطفولة)، تعكس واقع ما يمر به العراق من انحدار وانحطاط بمنظومة القيم، التي مهدت الطريق لظهور مثل هذه السلوكيات البعيدة عن الخصال والشيم التقليدية لمجتمعاتنا قبل عصور المسخ والتشويه، والذي مثلت عصابات داعش سنامه الاعلى.
ان هذه السلوكيات المشينة والتي غالبا ما تكشفها الصدف المحظة، تمثل الجزء الضئيل مما يجري في مجال الانتهاكات التي تتعرض لها هذه الشريحة التي لا ظهير لها (أطفال العراق). ولأسباب يعرفها المهتمون بتعقيدات المشهد العام للبلد، وما يمر به من هيمنة لكيانات ما قبل الدولة وترسانة عقائدها المتخلفة وغير ذلك من شروط ومناخات؛ تعجز اقوى المنظمات المهتمة بقضايا الطفولة وبما فيها منظمة اليونسيف في الوصول الى عمق هذه الانتهاكات وحجمها وارقامها الفعلية.
وما الاعتراف الاخير لمفوضية حقوق الانسان والذي اشرنا اليه، الا دليل واضح على ما يتعرض اليه حاضر ومستقبل هذا البلد. كل هذا لا ينفي وجود محاولات ومساع لتسليط الضوء على جوانب من تفاصيل هذا الملف الشائك، لكنها تبقى مجرد جهود فردية ومحدودة جداً لا تتناسب وحجم الكارثة المحدقة بأهم ما تمتلكه الامم والاوطان (فلذات اكبادهم). كما ان هذا الواقع المأساوي تتخلله عدد من التجارب التي تسعى للحد من تداعياتها وآثارها المدمرة، كالجهود التي يبذلها عدد من المنتسبين لجهاز الشرطة المجتمعية، والناشطون في مجال الحقوق المدنية والاعمال التطوعية. لكنها تبقى ضمن النشاطات المحدودة والتي تفتقد للعمل كمنظومة متكاملة، وبما يتفق وحجم هذا الملف الذي تمتد جذوره الى شتى مناحي حياة العراقيين الفردية منها والجمعية، ولا سيما ما واجهته في العقود الاربعة الاخيرة. ان الموقف من هذا الملف الحيوي يعكس مدى جدية النظام (السياسي-الاجتماعي) الحالي، وما نشاهده من تهاون وتخاذل في الدفاع عن ابسط حقوق هذه الشريحة المستضعفة، يطيح بكل عنتريات هذه الطبقة السياسية وهوساتها حول الحقوق والكرامة والحريات؛ فلا كرامة لوطن يبقى اطفاله من دون ظهير…
جمال جصاني