من دون ادنى وجع من عقل أو وعي أو ضمير، يحاجج غير القليل من المتنطعين للشأن العام عبر الاستناد الى ما يطلقون عليه بـ “التاريخ”. لا يتوقفون أمام حقيقة ما تم تدوينه من أحداث، ومدى مهنية ونزاهة من دبج ذلك، ولا الجهات والمصالح التي تقف خلفه. هكذا وبكل خفة يغرفون من تلك الترسانة من القصص والسرديات المثقلة بالاكاذيب والاضاليل التي دبجتها الجماعات والمصالح والعقائد المهيمنة، ليؤكدوا ما سوف يضيفونه من زيف وهراء لذلك الركام البعيد كل البعد عن حقيقة ما جرى من وقائع واحداث؛ تحتاج الى شروط ومناخات وفتوحات معرفية، لم تعرفها مضاربنا المنكوبة بقوارض المنعطفات التاريخية من شتى الوظائف والوسائل والاشكال. لزمن ليس بالبعيد وقبل زوال امبراطورية بني عثمان، لم يكن العراقيون يعرفون شيئاً عن تاريخ هذا الوطن القديم، والذي ازاحت التراب عن صفحاته وما تضمنته رقمه الطينية وكنوزه الثقافية من رأسمال رمزي، نشاطات وحفريات الآثاريين الاوربيين وحفرياتهم الحديثة.
ما هذا “التاريخ” الذي يحتكمون اليه؟ ونحن نتعرف الى حجم الزيف الذي تعرضت له أحداث ووقائع لم يجف حبرها ولا دماء ضحاياها بعد، حيث يتم (القاء القبض على الضحية ويطلق سراح الجاني) دائماً وغالباً على هذه التضاريس المنحوسة، والاشد فتكاً ان غالبية المتلقين قد أدمنوا على اجترار ما يرمى اليهم من هذه الفضلات المخصصة لهم، حيث يشكل ما يطلق عليه بـ “النخب” قطاعا متميزا من تلك المجترات، التي تعيد تدوير وتزويق ذلك المسخ من التاريخ، والذي يتناغم والأسمال الآيديولوجية التي يعتصمون بها. لن نتحدث عما كان يحصل زمن ذلك المخلوق الخرافي الذي “اذا قال… قال العراق” لان كتابة التاريخ آنذاك لا تحتاج الى الاستعانة بمنقبين دوليين كي يكشفوا لنا عن هويتها وطبيعتها، لكن سنحاول ان نقتفي أثر ذلك، بعد زوال النظام المباد وبدء ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية، مرحلة تدعوا قبل كل شيء الى شق الطريق صوب التأسيس لاعادة تدوين التاريخ القديم منه والحديث، بالاستناد الى المناهج العلمية والادوات المعرفية المجربة، والتي لا تخضع لزجر المصالح الفئوية والعقائدية الضيقة وشراهة وعدوانية “الهويات القاتلة”.
بعد مرور أكثر من 16 عاماً على حقبة الفتح الديمقراطي المبين؛ شهد هذا الحقل الحيوي تحولات من نوع آخر، لم تمهد لتلك المهمة وحسب، بل جعلتها أكثر تعقيداً وعسراً مما كانت عليه، بعد أن القت القوى والعقائد والمصالح التي تلقفت مقاليد امور الغنيمة الأزلية، المزيد من الانقاض المعرفية على ذلك الركام من الأكاذيب والأضاليل التي ورثناها عن الحقب الغابرة. لذلك اصبحت المهمة أكثر عسراً والعتمة أشد حلكة أمام الأجيال الحالية والمقبلة، والتي هي بأمس الحاجة الى التعرف على حقيقة ما جرى قديماً وحديثاً؛ كي تنتشل نفسها من هذا “التاريخ” الذي يحجب المعرفة والمعلومة، ويعيق اي تقدم جدي للمجتمعات والدول. ان الموقف المتهاون والمتواطئ من قبل الجهات الرسمية المعنية وغالبية المنتسبين لنادي الانتلجينسيا من هذه الانقاض التي يطلق عليها بـ “التاريخ”، يعكس حالة الضعف والهوان التي يعيشها المجتمع العراقي وباقي المجتمعات المتجحفلة معه بمثل هذه الهوايات القاتلة. ومن أجل التخفف قليلاً من تبعات واضرار هذه الموروثات السامة، ليس أمامنا سوى الاتفاق على ضرورة تجنب الاحتكام الى هذا “التاريخ” الذي لا يمت للتاريخ بصلة…
جمال جصاني