في مساءٍ ممطرٍ وعند منتصف شهر مثقل بأحزان العراقيين ونكباتهم في العصر الحديث، رحل جمعة الحلفي الشاعر والإنسان الذي كرس كل ما هو جميل ومشرق لديه، لخدمة قضايا شعبه في الحرية والكرامة والعدل والجمال. مشهد تشييعه جاء متناغماً وما دوّنه ذات غروب:
ليل يجيب ليل/ وغيمة تجيب غيمة/ وآني ما خذني المطر.
لقد أخذك المطر من هذه الأقدار التي لا تجيد سوى إنتاج المزيد من الليل والعتمة وانسداد الآفاق؛ الى حيث السلام الذي افتقدته كثيراً. أعرف جيداً أنك حتى اللحظة الأخيرة كنت تهدهد مع الراحل سعد الله ونوس عبارته المشهورة (نحن محكومون بالأمل) وأن بحوزتك الكثير من الآمال والمشاريع والتطلعات، والتي تعدّها لائقة بالوطن الذي دارت على تضاريسه أول عجلة، وأهدى البشرية قيثارتها الأولى. لكن كل ذلك الإرث من الإبداع والتعددية والجمال، لا يطيقه من تلقف مقاليد الغنيمة الأزلية بعد حقبة الفتح الديمقراطي المبين، المثقلون بهموم هي الضد النوعي لهمومك يا صديقي. مع كل تلك العتمة وإعادة تدوير الليل، التي رافقتنا طويلاً، منحتنا الأقدار فرصة العودة الى الوطن، بعد ربع قرن من الغربة والعيش في المنافي المتاخمة لحدوده، هذه الفرصة التي افتقدها الكثير من الأحبة والرفاق والأصدقاء، الذين رحلوا في المنافي، من دون مشاهدة لحظة تدحرج رأس الصنم في ساحة الفردوس (الجندي المجهول سابقاً).
قبل أن يأخذه المطر الى منفاه الأخير، كان أبا زينة قد عاد الى بغداد، حاملاً معه مشاريعه وعلاقاته وخبرته الطويلة في مجال الثقافة والفكر والسياسة والإعلام، لكنه نسى أن كل ذلك لن يشفع له، فالمرحلة الجديدة لا تفتح أبوابها إلا لأصحاب البكلوريوس أو ما يعادلها أو فوقها. لم يلتفت تلامذة مونتسكيو (فقهاء التشريع) الى كل ما تراكم من خبرة ونزاهة وكفاءة لدى من كان في المنافي (أمينا عاماً لرابطة الأدباء والكتاب العراقيين في الخارج) والى الأدوار التي أداها في سبيل خدمة قضايا شعبه العادلة، وفي نضاله الدؤوب ضد أبشع نظام توليتاري عرفه تاريخ المنطقة الحديث. لذلك ظل يعمل وهو المثقف والمناضل والإعلامي المخضرم، في أماكن ومواقع لا تتناسب وكل تلك السيرة المترعة بالمهارة والإنجاز. لقد راهن كما رفيقه الشاعر الكبير مظفر النواب (على كلك لا يعبر ساقية..) وكان ما كان من مسلسل الأوجاع والخيبات العضال. لا يمكن أن ننسى كيف أن معايير المحاصصة المعتمدة بعد “التغيير” لم تستطع أن تطيق وجود جمعة الحلفي رئيسا لتحرير صحيفة الصباح لأسابيع معدودات؛ حيث تم إقالته بشكل بعيد عن كل ما له علاقة بمعايير وقيم “صاحبة الجلالة” زمن ما يفترض أنه مرحلة للعدالة الانتقالية، بالرغم من تمكنه من وضع بصمة مميزة على شكل ومضامين الصحيفة وبوقت قياسي، باعتراف كل من عمل معه آنذاك. مع ذلك كان مصراً على أن الطرق المتواصل بمقدوره أن يفتح ثغرة في جدار الليل الذي لا ينضح عنه سوى المزيد من العتمة والمناخات الطاردة لكل ماهو حر وجميل. عندما شيعناك تحت المطر يا صديقي تذكرت ما كتبه سهراب سبهري:
علينا غسل عيوننا/ كي نرى بشكل آخر
علينا غسل المفردات/ كي تكون المفردة عصفاً/ كي تكون مطراً.
وهاهو المطر حرص على أن يرافقك في رحلتك الأخيرة الى حيث الأبدية والسلام…
جمال جصاني
الصديق الذي رحل مع المطر
التعليقات مغلقة