علي حسن الفواز
يضعنا الشاعر لطيف هلمت أمام لعبة الشعر الفاضحة، إذ يساكنه بوصفه وجوداً، أو لذةً، أو طريقة في استدراك معنى العالم، يؤسس لتجربته مَنصة بالغة الحساسية، لكي يرى من خلالها، ، أو لكي يحقق فيها ذاته المسكونة بالتشظي، حدّ أنّ لعبة الشعر الذي يكتبه تبدو وكأنها محاولة في الترميم، أو غواية للرؤية، فكلُّ مايكتبه لاينفصل عن مراودات تلك اللعبة، حيث تتبدى خبرة الشاعر في توصيف فعل القصيدة، أو اعطائها وظيفة تتجاوز طاقتها التعبيرية، بإتجاه الإبانة عن طاقة وجودية، هي ذاتها طاقة الرؤية، ورغبة حميمة في أنْ يظل الشاعر في سياقها صانعا للاستعارات، أو صانعاً لما يمكن تسميته ب(الكتابة الضد) تلك التي تتكىء على فعل الاستعارة بوصفها قناعاً، أو مجالا للتمدد خارج خارطة لغة اليومي، أو ربما خارج هندستها المسكونة بافتراضات مايمكن أنْ يدركه الشاعر من المتاح، والمباح، والظاهر، والمتداول، وكأنّ لطيف هلمت يقصد فعل المغامرة لأنسنة الكتابة، أو لإعادة توصيف الواقع المسكون بالفجائع، فضلا عن توصيف العلاقة مع اللغة بوصفها حيّزا هوياتيا أوبيتا(هيدغرياً، لكنه حيّز مكشوف وعارٍ، إذ يعيش اغترباته، مثلما يعيش كلّ تمثلات(وعيه الشقي).ِ
وعي الشاعر- هنا- هو مجسّ اللعبة، هو سؤالها الأنطولوجي، مثلما هو نزوعه للتمرد على السياق/ التاريخ، وعلى الذات/ الهوية، ولاستبانة مايمكن أنْ يكونه خارج هذه الأرخنة، وداخل هواجس الذات المحبوسة في المكان واللغة والهوية، وأحسب أنّ هذه الثنائية هي مناورته للبحث عن الحرية بوصفها الكاموي، وعن الاحساس القلِق إزاء ما يشبه اللاجدوى، تلك التي يعدّها(مجاله الشخصي) أزاء تاريخ مرعب ومهيمن وقهري من الجدوى العمومية، تلك التي يصنعها الآخرون الذين يتمثلون أقنعة السلطة، المُقدّس، الجنوسة، والتي ظل الشاعر ومنذ أكثر من اربعين عاما يبحث فيها عن (ثقب باربوس) لكي يرى مايراه هو، وليس مايراه الآخرون..
لطيف هلمت شاعر التمرد على الاقنعة، بكل ماتنطوي عليه من مرويات كبرى، وتابوات، و(حيلٍ نسقية) ملفقة، فضلا عن كونه متمردا على الطبيعة التي ظلت الشعرية الكوردية تعيش سطوتها واقنعتها، إذ ظل مسكونا بهواجس ذلك التمرد، أو بما يتداعى من الأسئلة، وبقطع النظر عن مرجعيات توصيف تلك الطبيعة على المستوى المكاني، وأحيانا( الثوري أو الواقعي) فإنه يدرك تماما، أنّ النزوع الى المدينة، هو النزوع الى الكتابة/ الخلاص، الى الوجود والمعنى، بوصف أنّ المدينة هي البيت السيميائي للشاعر، هي قاموسه، مكتبته، مقبرته، استعاراته الكبرى، أنثاه، شيخوخته..
تشبه الغيوم
مجموعة شبابيك مطلية
من يعلم
ماذا تحمل في جيوب بناطيلها السود ؟
انها تشبه جماعة زنوج
تومىء لأحد موتاها خفية
ترى.. اين تولد الغيوم
و بأي مرض تموت ؟
لماذا لم يزر أي شخص
قبرغيمة انثى ؟
ترى هل تحفر الغيوم على رخامات قبورها؟
السؤال الانساني عند لطيف هلمت، هو ذاته سؤاله الفلسفي، حيث القلق الوجودي، وحيث هاجس الحرية، وحيث غواية الشعري ومايستدعيه من موحيات، ومن شغف جمالي وتعبيري..
هذه الأسئلة لها حضورها الاستيهامي، مثلما تعني فاعليتها الفنية، إذ تؤشر خبرة الشاعر في المتن الشعري تاريخاً ومنجزاً، وتعالق قصيدته بسيرورات التحوّل الشعري العراقي منذ نهاية الستينيات، فتجربة لطيف هلمت لم تنفصل عن تقانات التجريب، ولا عن هاجس المغامرة التي عاشها أسئلتها شعراء عرب وكورد، إذ استغرقتهم مجموعة من المؤثرات التاريخية- سياسية واجتماعية وثقافية- وصراعات إنعكست على واقع المعيش الثقافي، وعلى اغتراباته الوجودية والهوياتية، وأحسب أنّ حساسية مفرطة كالتي عند هلمت جعلته أكثر تشظيا، وأكثر صخبا، وأكثر قلقا واحساساً بالضياع والبحث عن المعنى الغائب..
إذا شعرتم بان صوتي ليس صوتكم
أو شعرتم بان لوني ليس لونكم
وشعرتم بأن همومي ليست همومكم
وشعرتم بأن ثغري ليس ثغركم
حينئذ مزقوا شعري
وحطموني كدمية من دون رحمة..
الاحساس بالمتاهة، والاغتراب، أو حتى بالتشظي الهوياتي جعل قصيدة أكثر انشغالا بالهاجس الوجودي، والبحث عن لحظة فارقة، قد تكون لحظة تطهير، أو تعال، أو لحظة استدعاء للذة، وكلّ هذا يُحيلنا الى ماهو مخفي في شعرية هلمت، تلك التي تعاني من قسوة الغياب، أو الخوف من الموت، أو حتى الإحساس المُضمر بالإخفاق، والبحث إبدالات وجودية، وعن تمثلات شعرية لاحيّز لوجوهها إلّا القصيدة(الصائتة) بوصفها تتكىء على جملٍ فعلية- اقتحمتُ، ولجتُ، اقتحمتُ، تسللتُ- يستمرأها ضمير(الأنا) إشهاراً ومواحهة للغياب الذي كان يعيش الكوردي، الواقف منذ عقود عند حافات الحرية والوجود والهوية..
اقتحمت قلب الجبل
كان ملیئاً بالرغبات
ولجت أعماق الرغبات
كانت ملغومة بالفیافي
اقتحمت كبد الفیافي
كان حبلی بالمیاه
تغلغلت الی نهایة المیاه
كانت عامرة بالاعشاب
نفذت الی صمیم الأعشاب
كان مفعماً من ذاتي
تسللت الی مركز ذاتي
كان مفخخاً بأنا.