وحدها الحرية ومنظومتها الحداثوية المجربة، بمقدورها استنهاض أفضل ما لدينا من مواهب وتقاليد وقيم، طمرتها قرون من العبودية والإذلال والتخلف والاستبداد. غير القليل منا ولأسباب ودوافع شتى؛ يعيبون على غالبية سكان هذه المضارب المنكوبة، تعاطيهم الهش مع فرص الحرية العابرة التي منحتهم إياها الأقدار عند منعطفات من تاريخهم الحديث، عندما تم التفريط بها لصالح قوى التقليد المسؤولة عن كل هذا التحجر والتعفن والركود، الذي يرافق المشهد الراهن بكل تجلياته المادية والقيمية. لكن عند التمعن أكثر في العلل الواقعية لهذا الخلل البنيوي، نجده يكمن في جسامة مثل هذا التحول المفصلي في حياة المجتمعات والأمم، لا سيما من عاشت مثلنا، عصورا طويلة من العتمة والانقطاع عما يحيط بها من تحولات وزحزحات نوعية. إن الانتقال الى عالم تحكمه شرعة الحقوق والحريات الحديثة، ليس بالأمر الهين واليسير على من ولد وترعرع وتصلب عوده، في عالم تهيمن عليه شرعة كل فقراتها دونت من أجل سحق كرامة الإنسان ومسخه. لذا فمن الطبيعي مواجهة مثل هذا الفشل المتكرر في التعاطي مع قيم ومعايير الديمقراطية والحداثة والحريات، ولن تتنازل القوى التقليدية، عن مواقعها بسهولة ومن دون معارك ومواجهات، تثبت فيها القوى المناصرة للحداثة والحريات قدرتها واستعدادها على استلام مقاليد الأمور، وهذا ما لم يلوح في الأفق بعد.
كل هذا العجز وانسداد الآفاق، الذي رشح عن الحراك السياسي والاجتماعي بعد زوال الدكتاتورية، لا يعني فقدان الأمل بقضية الديمقراطية والحريات، بل هو يؤكد ما أشرنا إليه حول جسامة المهمة وتواضع إمكانياتنا الذاتية، والتي ما زالت بحاجة الى المزيد من المراس والوعي كي ترتقي لمتطلبات ذلك التحول. غالبية القوى والكتل المهيمنة حاليا على المشهد العام (السياسي والاجتماعي)، لم تدرك حتى هذه اللحظة، انتهاء صلاحيتها مع زوال سلطة النظام المباد، وأن بقاءها مرهون فقط بوجود فلول ذلك النظام، حيث يقدم الطرفان خدمات متبادلة لبعضهما البعض الآخر. هذا ما يجب أن يدركه جيداً كل من يجد في نفسه القدرة والاستعداد للانخراط الجاد والمسؤول في مهمة الانتصار لقضايا الحرية والحداثة والحقوق، لا أن يتم الرهان على من يتحسسون خناجرهم كلما طرقت مسامعهم مفردة الحرية؛ للعمل من أجل قضاياها العادلة.
إن عملية التقاء الروافد السليمة، والتي بمقدورها تحويل مثل هذه المشاريع التأسيسية الى واقع، ما زالت في بداياتها، وستحتاج الى مزيد من الوقت والجهد والوعي والإيثار؛ كي تشق طريقها الى أهدافها، وسط محاولات البعض لحرفها عن ذلك عبر دفعها الى المسارب المتسرعة والخطرة، كما يحصل مع الجيل الجديد من راكبي الأمواج في بورصة المزاودات الثوروية والحداثوية. من الأهمية بمكان الإشارة الى أن مهمة تأسيس عراق حر واتحادي وديمقراطي، ليست وليدة لحظة التغيير ربيع العام 2003 وكما جاء في دستور العراق الجديد؛ بل هو هدف ناضلت من أجله عدة أجيال منذ بدايات القرن المنصرم، وقدمت في سبيل ذلك تضحيات لا مثيل لها، وهذا ما يجب أن تكتشفه وتتعرف عليه الأجيال الجديدة، كي تستأنف تلك التقاليد المجيدة، المطمورة تحت ركام وأنقاض ما تعرضنا اليه من هزائم، في طريق إعادة تأسيس العراق الجديد على أساس وطيد من الحقوق والحداثة والحريات..
جمال جصاني