هل تنجح الحركة في الحكم هذه المرّة؟

أفغانستان تحت احتلال «طالبان»..

هلا نهاد نصرالدين*

الكارثة الحقيقيّة اليوم سقطت على كاهل كلّ سكّان أفغانستان الذين ظنّوا في العقدين الماضيين أنّ بطش «طالبان» انتهى إلى غير عودة، ليُفاجأوا بين ليلة وضحاها بأنّهم أعيدوا إلى قبضتها.
20 سنة من النفوذ الأميركي على الأراضي الأفغانيّة، 20 سنة من العمل الدؤوب مع الأفغان لـ”تطوير البلاد والسير بها نحو التقدّم”، 20 سنة من حياة الأفغان ذهبت هباءً، إذ وجدوا أنفسهم اليوم متروكين لمصيرهم بين يدي “حركة طالبان”.
تفاعلت الساحة الدوليّة مع هذه الفاجعة الصادمة ومع استغاثات نساء أفغانستان وانتشرت فيديوات لأفغان يحاولون الهرب بشتّى السبل، فسقط عدد منهم من الطائرات التي حاولوا التشبّث بها.
صعقتني المشاهد فعدت بذاكرتي الى كتاب قرأته عن أفغانستان، وصف فيه الروائي الأميركي- الأفغاني خالد الحسيني مشهديّة مؤثّرة في روايته الشهيرة “عدّاء الطائرة الورقيّة” (The Kite Runner)، على لسان إحدى شخصيّات الرواية، “عندما دخلت “طالبان” وطردت التحالف الأفغاني من كابول، رقصت في ذلك الشارع، وصدّقني، لم أكن وحدي. كان الناس يحتفلون… يحيون عناصر “طالبان” في الشوارع ويتسلقون دباباتهم ويلتقطون الصور معهم. لقد سئم الناس القتال المستمر وتعبوا من الصواريخ وطلقات الرصاص والانفجارات… لذلك، عندما جاء عناصر”طالبان”، كانوا أبطالاً. السلام أخيراً. نعم، الأمل شيء غريب. السلام أخيراً”.
وتابع “أتذكر عودتي إلى المنزل في تلك الليلة حيث وجدت حسن في المطبخ يستمع إلى الراديو. كانت نظرته قلقة. فسألته ما الخطب، فهزّ رأسه قائلاً “الله يعين الهزارة الآن”. “انتهت الحرب يا حسن… سيكون هناك سلام إن شاء الله وسعادة وهدوء. لا مزيد من الصواريخ، لا مزيد من القتل، لا مزيد من الجنازات! لكن حسن أطفأ الراديو وذهب إلى الفراش… بعد عامين، أي في عام 1998، ذبحوا الهزارة في مزار الشريف”.
أمّا اليوم فأحد لم يحتفل باحتلال “طالبان”! دبّ ذعر في نفوس الناس الذين فضّل كثر منهم الموت على العيش تحت حكم الحركة المتطرّفة. المفارقة اليوم أنّ الأفغان يعرفون حقّ المعرفة من هي “طالبان” وحقيقة المأساة التي ستحلّ بهم.
ولعودة “طالبان” السريعة و”غير المتوقّعة”، كما وصفها الرئيس الأميركي جو بايدن، دلالات أو سيناريوات محتملة عدة أبرزها أنّ القوى الدوليّة تركت الساحة الأفغانية لـ”طالبان” في سياق اتفاقيات تحت الطاولة، خصوصاً أنّ التغطيات الإعلاميّة الأجنبيّة تشير إلى تقارير أمنيّة سابقة عن هشاشة الوضع في أفغانستان في هذه المرحلة، وأنّ حركة “طالبان” كانت تستعد طيلة العشرين عاماً لهذه الفرصة الذهبية مباشرة عقب انسحاب قوّات الولايات المتّحدة الأميركيّة.
لكن قد يطرح البعض سؤالاً: لماذا كلّ هذا الاهتمام المفاجئ بأفغانستان التي لطالما كانت دولة منسيّة في الإعلام وأذهان الناس؟! الجواب ببساطة: إنّها اللعنة حلّت على أفغانستان وقد تمهّد للعنات متلاحقة من أكثر من جهة. فمن ناحية، عودة جماعة متطرّفة عنيفة إلى الحكم يعيد إنعاش الجماعات المتطرّفة الأخرى على رأسها “القاعدة”، ومن ناحية أخرى، وضعت خطوة الانسحاب الوعود الأميركيّة على محكّ انعدام الثقة.
لكن الكارثة الحقيقيّة اليوم سقطت على كاهل كلّ سكّان أفغانستان الذين ظنّوا في العقدين الماضيين أنّ بطش “طالبان” انتهى إلى غير عودة، ليُفاجأوا بين ليلة وضحاها بأنّهم أعيدوا إلى قبضتها.

من هي حركة “طالبان”؟
وُلدت حركة “طالبان” من رحم المدارس الدينيّة في باكستان في بداية التسعينات. وتعود كلمة “طالبان” في الأصل إلى كلمة “طلاب” في لغة الباشتو. كانت هذه المدارس تتبع العقيدة الديوبندية والوهابية التابعة للإسلام السني والتي كانت تمولها بشكل أساسي المملكة العربية السعودية وبعض الأثرياء. كانت هذه المدارس تديرها “جماعة العلماء الإسلامية” (JUI)، وهي حزب باكستاني ديني تميّز بتفسيراته الأصولية للإسلام، ومعارضته الاجتهاد، وقمعه أي دور فعّال للمرأة خارج المنزل.
ومكّن، وجود قيادة الحركة في باكستان، التنظيم من تجنيد عدد كبير من الأفراد وتدريبهم وترسيخ الفكر المتطرف عندهم بعدما “أقام نظاماً على أساس الفقه الإسلامي الحنفي المتأثر بالتقاليد البشتونية”.
ويعتبر مقال بحثي للباحث توماس فرير بعنوان: “التأثيرات التي شكلت أيديولوجية طالبان” (2012) أنّ “طالبان حطمت تقاليد ديوباندي في التعلم والإصلاح من خلال إضعافها بالتأثيرات الوهابية، بجمودها، وعدم قبولها مفهوم الشكّ إلا كخطيئة واعتبار الجدل أكثر من مجرد بدعة”.
فبعد الانقلاب الذي نفذه “الحزب الديموقراطي الشعبي الماركسي” في أفغانستان (PDPA) عام 1978، والذي قُتل خلاله داود خان، حاكم أفغانستان في ذلك الوقت، تدخّل الاتحاد السوفياتي وغزا أفغانستان في 24 كانون الأوّل/ ديسمبر 1979 لتعزيز حكم الشيوعيين غير المستقرّ آنذاك. أدى ذلك إلى اندلاع حرب استمرت 10 سنوات بين القوات الروسية والمجاهدين أو الجهاديين. في ذلك الوقت، قدّمت الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربيّة السعودية ودول أخرى للجنود الأفغان والجهاديين مساعدات عسكرية ومالية لدعمهم في حربهم. عام 1989 مباشرة بعد تولي ميخائيل جورباتشوف السلطة، أعلن السوفيات هزيمتهم في أفغانستان وانسحبوا من البلاد.
فحقّقت “حركة طالبان” أول انتصار كبير لها عبر السيطرة على قندهار عام 1994. بعد ذلك أسّست “طالبان” إمارة أفغانستان الإسلامية على أساس التفسير الصارم للشريعة الإسلامية، والشكل الاستبدادي للحكم، وقمع النساء، إضافة إلى انتهاكات لحقوق الإنسان معترف بها دولياً. بعد عام واحد من إنشاء الإمارة، سيطرت “طالبان” بقيادة الملا عمر على نحو ثلثي البلاد مع باكستان والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة التي اعترفت بشرعية حكومتها. واعتمدت “طالبان” على أموال من دول إسلامية بخاصة باكستان والسعودية وقطر. إضافة إلى ذلك، استفادت “طالبان” من أصحاب الملايين المتطرفين الذين لجأوا إلى أراضيها كأسامة بن لادن الذي موّل الجماعة الحاكمة المتمردة مقابل لجوئه في أفغانستان. وقُدّر عدد مقاتلي الحركة في السنوات الماضية بحوالى 60 ألف مقاتل.
نجح الجهاديون في هزيمة مستعمري أفغانستان. لكن الحركة لم تكن جيدة في فن السلام كما نجحت في فن الحرب: لقد فشلت في إقامة دولة مستقرة ذات مؤسسات جيدة قادرة على منح مواطنيها حقوقهم واحتياجاتهم الأساسية.
ظلّت حركة “طالبان” في الحكم من 1996 حتى عام 2001 عندما أطاحت القوات الأميركية بنظام الحركة، عقب الهجمات على مركز التجارة العالمي (World Trade (Center في 11 أيلول/ سبتمبر 2001. ومنذ ذلك الحين، اعتمدت “طالبان” على حركات التمرّد لزعزعة استقرار أفغانستان وتوجيه الاتهام إلى النظام المدعوم من الولايات المتحدة الأميركيّة والرئيس الأفغاني أشرف غني الذي فرّ من البلاد راهناً، قبيل دخول حركة “طالبان” إلى العاصمة “كابول” واحتلالها.
وإضافة إلى قضايا المرأة وحقوق الإنسان، يظهر تطرّف “طالبان” جليّاً في تعاطيها مع شيعة الهزارة. استهدفت “طالبان” عمداً أقلية الهزارة بسبب اعتقاد الديوبندي بأن الشيعة ليسوا مسلمين، ما أسفر عن قتل عشرات الآلاف منهم. أمّا في لبنان، فهناك من يهلّل لعودة “طالبان” إلى الحكم باعتبار أنّهم “على المذهب الحنفي ولا يكفرون أحداً ويحترمون المذهب الشيعي ويصدرون بياناً سنوياً للعزاء في عاشوراء، قاتلوا الأميركيين وداعش لسنوات طويلة بدعم من إيران، حالياً لديهم تغيير فكري كبير في الخطاب والفقه الشرعي يتجه بشكل كبير نحو التسامح والاعتدال”، متناسين المذابح بحقّ الهزارة.
وبعكس الحديث عن التغيّر الكبير المزعوم في فكر “طالبان”، بحسب دراسة للباحث مايكل سامبل بعنوان “الهيكل البلاغي والأيديولوجي والتنظيمي لحركة طالبان” الصادرة عام 2014، “لا يزال خطاب طالبان يتناول مواضيع تراكمت عبر مختلف المراحل ولا يظهر أي مؤشر على أن الحركة أعادت صوغ رسالتها حتى الآن. وأولويّاتها الأربع الرئيسية هي: السيادة الوطنية، القوة العسكرية، قدسية جهاد طالبان، سلطة إمارة طالبان الإسلامية”. هذا فضلاً عن “طاعة الأمير” التامّة.
فمن الواضح أنّ لا تغيير يُذكر حتى الآن طرأ على فكر “طالبان” في العقدين الماضيين في مقابل تطوّر وتقدّم هائل للشعب الأفغاني في قضايا التعليم وحقوق الإنسان وخصوصاً حقوق المرأة. فهل ستتّبع “طالبان” طريقة حكمها التقليديّة التي انهارت في المرّة الأولى، وسرعان ما قد تنهار مجدّداً في ظلّ الرفض الشعبي القاطع لها، أم أنّ الحركة استغلّت الأعوام المنصرمة لبلورة استراتيجيّة جديدة أكثر تواؤماً، إلى حدٍّ ما، مع متطلّبات الدولة والعصر؟ ولكن ممّا لا شكّ فيه أنّ حكمها هذه المرّة سيعيد أفغانستان عقوداً إلى الوراء ويعيق تقدّمها ويخلّف مآسي جديدة لن يتخطّاها الشعب الأفغاني بسهولة.

  • صحافية لبنانية
    *عن موقع درج

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة