سجينة

انتصار الدنان

انتابتني موجة من الضّحك عندما شاهدته جالسًا في زاوية المكتب حاملًا بيده سيجاره الضّخم، يضعه بيْن إصبعيه الضّخميْن، كأنّه يمتلك صعلوكًا يطوّعه كيفما يشاء، لكنّ ضحكتي هذه اختفت حينما تذكّرت ما روته لي عنه، وجمعْتُ بين ما قالته وطريقة جلوسه هذه، فقد كان يراها في ذلك الفستان المزركش الّذي يُظهر معالم جسدها الفتّان، إغراءً لغريزته، أو محاولةً في الوصول إلى ما يشتهيه منها، وحينما يقترب منها وينام في سريرها كانت تأبى أن تشمّ رائحة العطر الّذي يغسل به جسده حتى يجذبها إليه. فقد كانت تنتفض لأقلّ لمسة منه لجسدها، لا لشيء إلّا لقرف كانت تشعر به عندما يقترب منها.
في تلك اللّيلة، خرجت عن صمتها وهي في الفراش، والشّهوة المتأجّجة متربّصة في تلك العينين الّتي أراها أمامي الآن. صراحتها وقتها نزلت عليه كالصّاعقة الّتي تضرب الأرض، وتحرق كلّ ما عليها، وعلى الرّغم من ذلك، ظلّ يداعبها. لم يهتمّ لكلامها، وتابع مداعبته لها، لكنّها انتفضت كاللّبوة، وصرخت في وجهه رافضةً تلك المداعبة الّتي صارت تتقزز منها كلما اقترب منها، ووضع يده على جسدها النحيل الغارق بالخذلان والقرف مما وصلت إليه.
كانت المرأة طويلة القامة، سمراء البشرة متوسّطة العمر، حادة النظرات، لم يقدّر لها أن تتعلّم تعليمًا عاليًا، فبعد أن أنهت الصّف الثّانوي الثاني نزلت إلى ميدان العمل، تصارع الحياة وتصارعها في آن معًا، إلى أن وقعت فريسة بين أنياب ذلك الشره لكلّ شيء.
تركت الفراش وخرجت إلى الشّرفة. كان الصّباح قد بدأ يشق الغيوم متثاقلًا، فالسّماء كانت غائمة، ونسمات لاذعة تنتشر هنا وهناك راحت تخترق جسدها. كانتِ العاصفة تموء كقطّة، والشّمس غاضبة في البحر، تبحث عن بصيص أمل في أن تبعث الدفء في ذلك المكان الذي كان خاليًا من كل شيء، حتى من الهررة التي كانت على الدوام تقفز بين سلال النفايات تبحث عن بقايا طعام. كانت حينها تفكّر بالخروج من بيته، تبحث عن مكان آخر تعيش فيه، فشعرت بأنّ خطواتها ستضيع في شوارع المدينة الكبيرة، وربما سوف تسحقها الأزقة الضريرة، لكنها وعلى الرّغم من ذلك فضلت أن تخوض غمار تلك التجربة بدلًا من أن تبقى رهينة لفراشه النتن.
طقطق الرّجل بفناجينه طقطقات خاصّة، ناداه، وطلب منه أن يقدم القهوة للحاضرين لجلسته الّتي فيها يروي حكاياته مع النّساء، وكيف كان يغويهن من أجل ابتزازهن لقاء أجر زهيد تأخذه الواحدة منهن بعد أن يقضي ساعات حميمية معها.
سألت مطقطق الفناجين عن صاحب السيرة، فدلني عليه، اقتربت منه، قدمت السلام وعرفته بنفسي.
سهى.
أجاب محافظًا على هدوئه: من سهى؟
قلت له:» أعمل محامية.»
لم يدعُني للجلوس، فإحساسه دلّه عليّ فورًا، وقال:» وماذا تريدين؟»
أود أن ننهي موضوع الطلاق بدون مشاكل، وعلى وجه السرعة.
خرجت عيناه من مكانهما في لحظة كانت كأنها بركان، ونادى على بعض الرجال الضخام الذين يعملون عنده، تقدموا نحوه، وأشار بإصبعه الثخين نحوي. إنها سهى. فقط سهى، ولم يعرف بي، فتوجهوا بسرعة البرق نحوي، وشعرت بأن أنفاسهم الثقيلة العابقة برائحة التبغ سوف تقتلني، ولم أعد أدري ما الذي حصل نحوي.
اختلط ضجيج أقدامهم بصوت الرّيح، وحفيف الأشجار الّتي كانت تصرخ وهي تغادر أمّاتها، وما شعرت بنفسي وما الذي حلّ بي.
بعد وقت طويل، لم أعد أذكره، لكني أستطيع أن أقدره، ربما ثلاث ساعات، أفقت ووجدت نفسي مرمية على جانب طريق فرعي. جلت على رجلي، والتفتّ إلى الطريق حتى لمحت سيارة قادمة من الجهة اليمنى، فركضت نحوها ورميت بنفسي أمامها، وما شعرت بنفسي إلا وأنا على سرير في المستشفى.
خرجت من المستشفى متوجهة إلى البيت، وفي نفسي تساؤلات عديدة حول أمثال هذا الرجل، وحول انعدام الأخلاق والإنسانية، والرخص الذي تشهده مجتمعاتنا التي تقبل بمثل هؤلاء البشر.
حاولت الاتصال بأحد الزملاء الذي له باع طويل في المحاماة، وفي مثل هذه القضايا بالتحديد، أشار علي بالخطوات التي يجب أن أسلكها، ولو أنها ستتخذ طريقًا طويلًا وشاقًا غير أنه نصحني بأن أتنحى عن هذه القضية لأحد المحامين الذكور؛ لأنني بحسب قوله سأتعرض للكثير من المضايقات؛ لأن المدعى عليه من أصحاب التاريخ الحافل بالسفاهة وقلة الأخلاق، وفي الوقت نفسه من أصحاب المال العفن، الذي بحسب تقديره يستطيع أن يرشي من خلاله من يستطيعه، أو ربما قد يعمد لأذيتي من خلال ذمي وتشويه سمعتي، أو ربما سيعمد إلى أذيتي جسديًا.
أغلقت الهاتف على وعد بأنني سأدرس الموضوع، وإن وافقت على طرحه فسوف أكلفه هو بهذه الدعوى.
جلست على الشرفة أرتب أفكاري، وأرتشف قهوتي التي أحبها باردة، فاستمالتني الطبيعة بجمالها وكأنها دعتني إلى مغادرة المنزل.
خرجت إلى الشارع، ورحت أمشي وأتنفّس الصّعداء، أشم رائحة الحياة، وبينما أنا في طريقي لفتني مشهد، كانا عصفوين يجتمعان على بعض فتات من الخبز، ربما سقط ذلك الخبز من يد أحد المارة، وأغلب الظن أنه سقط من يد طفل صغير، فالخبز كان من ذاك المحشو بالتمر.
جلست على حافة الشارع، ورحت أرقبهما، كان أحدهما ينقر الخبز، يحمله بفمه ويذهب إلى شجرة صنوبر متوسطة الارتفاع كانت أغصانها تظلل الشارع، وما إن يعود الطائر حتى يذهب الآخر، إلى أن انتهى عملهما ولم يعد من الخبز شيء، لكني أصررت على معرفة الأمر. سرت باتجاه الشجرة، وإذ بي أرى العصفورين في عشهما يطعمان صغارهما.
أخذني هذا المشهد إلى مشهد ذاك الرجل الذي كان منتفخًا على كرسيه حين أمر خدامه بضربي، عندما أخبرته بأنني محامية.
عدت إلى البيت، اتّصلت بصديقي المحامي، وأخبرته بأنّني سأتابع القضية، ولن أتخلى عن تلك المرأة التي جعلتها الظروف ترتمي في أحضان ذاك السمج.
حددّ القاضي موعدًا للبت في قضية التفرقة التي قدمتها له. يوم الجلسة، خرجت من بيتي باكرًا، حتى لا أتأخر، فقد كان موعدنا عند العاشرة صباحًا. وصلت عند التاسعة إلى المحكمة، وعندما وصلت وجدت كلاب الحراسة قد سبقوني إلى هناك. اقتربوا مني، وحاولوا التحرش بي لافتعال إشكال يمنعني من حضور القضية. تجاهلت وجودهم، وسرت نحو عناصر الأمن، الذين كانوا موجودين في المكان، طلبت منهم حمايتي، ودخلت إلى القاعة.
حضرت المدعية عند التاسعة والنصف، وحان موعد الجلسة، لكن المدعى عليه لم يحضر. تأجل الموعد أسبوعًا آخر. حاول المدعى عليه خلاله التواصل مع زوجته لإنهاء الخلاف، عمل على تهديدها وترغيبها، لكنها أصرت على موقفها.
في الموعد الثاني، حضرنا قبل الموعد بساعة، والمدعى عليه لم يحضر. طلب القاضي من مساعده الاتصال به، لم يرد، عندها قرر القاضي الموافقة على دعوى التفريق.
استغربت جدًا لموقف القاضي السريع، فبالعادة مثل هذه الدعاوى تأخذ أخذًا وردًا لأشهر، وربما لسنوات، لكن ربما وجد القاضي بحسه الداخلي ما يدعو إلى اتخاذ هذا القرار، أو ربما استند على ما كتبته عندما قدمت مرافعتي المكتوبة، أو ربما شعر بالظلم الواقع على موكلتي عندما نظر إلى وجهها.
خرجت من قاعة المحكمة وأنا سعيدة بالإنجاز الذي حققته هذه المرأة التي قررت أخيرًا الهروب من السجن الذي كانت تعيش فيه.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة