النزعة الصوفية في «حكاية الثلاث كلمات الساحرات»

علوان السلمان

  • يقول الحسن البصري ( ان من افضل العمل الورع والتفكر..)
  • ومرة دخل الشبلي على الحلاج وقال له:- كيف الطريق الى الله؟
    فقال خطوتين وقد وصلت..اضرب بالدنيا وجه عشاقها ، وسلم الآخرة الى اربابها..
    ورواية (سعدون محسن ضمد) (حكاية الثلاث كلمات الساحرات) رواية في التصوف عناصرها (الشيخ والعارف والمريد) وهي تذكرنا بكتاب (التوهم) للمحاسبي مؤسس مدرسة بغداد الصوفية (ت243هـ) الذي ينتمي اسلوبه الى ادب الوعظ، وفيه بلغ المحاسبي الذروة في تحليل نزعات النفس والهوى مدى لا يجارى حتى ان (ما سينيون) قال فيه:- المحاسبي قد سما بالتحليل النفسي الى مرتبة لا نجد مثيلا له في الآداب العالمية الا نادرا..
    وسجلت الحكاية على مر الازمان رواية باقترابها من الواقع، وميلها الى اتخاذ حوادثها مما يقع لأشخاص من المجتمع الانساني بما هو اقرب الى طبيعة الاشياء.. فيتضح فيها المكان والزمان وتعدد الشخصيات التي تتحرك في محيطها بواقعية مع اعتماد الخيال الوسيلة لربط اجزاء الحادثة وتصوير شخوصها كي يمنح الكاتب العمل قوة في السردية والحوار بلغة تعبيرية فنية واضحة بعيدة عن الزخرفية اللفظية تجري على السنة المحاورين بصدق وعفوية موحية بمستواهم ووعيهم المعرفي وميلهم الفكري.، فالشخصيات الرئيسة في الرواية لا يحسون باي صراع داخلي ولا اي توتر نفسي بل هم هادئون قد تميزوا بتقواهم ، وقواهم العقلية .. فكانوا شخصيات انموذجية، واكتفى الكاتب في تصويرهم بالملامح الخارجية فجاءوا سطحيين في سلوكهم وتصرفاتهم الذاتية، فهم انموذجيين لا يعرفون التردد او الاحجام ،ولا يدركون الا ما قدر لهم ادراكه وهكذا يتجسد الشر والألم والحزن دون ان يتداخلا في نفوس الشخصيات المتحاورة (المريد والعارف) فقلوب العارفين خالية من كل شيء سوى حب الله، والرؤية عندهم هي رؤية بالقلب عن طريق الحب ، والسبيل الى المعرفة عندهم هو الله ذاته (عرفت الله بالله وعرفت ما دون الله بنور الله..) .. فالله هو الغاية والوسيلة في آن واحد.، فشعارهم (لا أريد من الله إلا الله)..
    اما المريدين سعيهم ان ارادوا الطريق لقاء العلماء بالجهل والزهاد بالرغبة واهل المعرفة بالصمت ، وعلى المريد نبذ الحياة الخطيئة واعداد النفس لعبادة الله…
  • سيدي العارف متى تختم على جبيني بختم القبول؟ متى تفسح لي فسحة في مجلس العزاء الذي تقيمه كل ليلة على ارواح العشاق..)
  • مجلس العزاء هنا الذكر الذي يقيمه المتصوفة وفيه تقرأ القصائد التي توحد الله وتمجد الانبياء والصالحين والاناشيد مع الدفوف..)
  • رويدك ايها المريد.. ايها الخاطئ .. يا كثير الآثام .. الا تعلم ان الراحلين خلال السماوات البعيدة هم الانقياء .. والاتقياء. الا تعلم ويحك ان دخول الجحيم والبقاء فيها الى الابد اهون الف مرة من الدخول على الحقيقة بثياب ملطخة بالرذيلة ومتسخة بالإثم..) ص22-ص25.
    لذا كانت الخلوة عند المتصوفة هي أساس للتطهير من الآثام.. فالمريد يختلي أربعين يوما بنفسه في ارض معزولة خالية إلا من الماء والعشب الطبيعي اللذين يعيش عليهما المريد هذه الفترة لترويض النفس على رفض ملذات الدنيا..
    وخلال هذه المدة لا يتحدث المريد الا مع الله مسبحا وحامدا وشاكرا (كنت يافعا او اكبر بقليل عندما دلفت الى صحراء ليست كبيرة لكنني اضطررت لان اجعلها الكافية لبداية المشوار مع الغيب..)ص 14.
    لقد انعكست رؤية الكاتب في عمله الروائي شكلا ومضمونا، وقد رأينا جانبا من هذا الانعكاس في تصوير الشخصيات الرئيسة، وها هي شخصية (سيد البوح) الذي ينطق بالأسرار ابتداء من كلمته التي تدعو الى (قراءة الرواية على مهل مع الابحار فيها لإدراك مداها..) فسيد البوح هو شيخ العارفين والمريدين وسيد الرواية.. الذي ينطق بالأسرار ، فهو المسؤول عن كل ما يوصلنا الى الجنون.. الى الافكار وعدم الانتماء الى المعتوهية التي لابد للأولياء من الوقوع بها..)ص7.. (فهي مرحلة الذوبان في روح الله..).
    فالحب والذوبان في روح الله عند الصوفيين سر في القلب، وهيام الفعل في الله.. وكلما امتلأ القلب بالحب زاد امتلاؤه بالمعرفة، والوجد عندهم ركن اساس في صوفيتهم … يقول الجنيد البغدادي..
    الوجد يطرب من في الوجد راحته
    والوجد عند حضور الحق مفقود
    قد كان يطربني وجدي فاشغلني
    عن رؤية الوجد ما في الوجد موجود
    وسيد البوح شيوخه الاولين من الانبياء والصالحين.. فاولهم الذي احترف البكاء من وحشة الطريق وطول السفر وثانيهما الذي ابتكر المشي باتجاه المحنة نازعا نعليه وبالغا مجمع البحرين.. وثالثهما الذي اتقن ارتداء الخرقة وامتلأت به كل تلك الاردية التي اعدت للنساك الذين انفرطوا من قلادة الرب وهو ينهض للصلاة.. (الفكرة هنا انطلقت من مقولة ابن تيمية (وجه الصباح ينزل الله الى الارض متكئا على عصاه كما اتكئ انا على عصاي وانزل من المنبر..) وهذه الفكرة غير صحيحة لان تجسيم الله تجعل منه شيئا ماديا..
    لقد اعتمدت الرواية الرؤيا الصوفية لتحقيق اهدافها ، فالرؤيا عند الكاتب موقف ومعرفة قائمة ومستقرة في دائرة الوعي..
    (لم تكن الرؤيا بحد ذاتها هي التي تثيرني.. بل ما يكتنفها من جحيم من يسبقها من شهيق وزفير..)
    (وما يأتي بعدها من موت وسكون وسقوط .. سقوط في ظلمة حالكة لا حد لها..)ص3.
    فالرؤية الصوفية تقوم على تقديس مملكة الروح وعالم الغيب الساكن فيما وراء العقل والوعي والمظاهر المادية العمياء.. فحاول الكاتب ان يستنبط الوجود.. مع الاستغراق في عالم المعرفة بلا حدود منطلقا من مقولة النفري (كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة..)
    لذا كانت الرواية متكئة على الشعرية المكثفة بومضات صوفية انطلقت من العارفين والمريدين والخلوة والتجلي للكشف عن الحقيقة .. وسيد البوح..)
    (الجسد هو الذي يضطرب اما العصف الذي يعصف بالروح لحظة تجليك..)
    (الجسد بحاجة للإدراك .. النفس تواقة للمعرفة..)ص6.
    لقد اعتمد الكاتب الفاظا وظفها وجوديا تتعامل مع النفس التي تسعى الى تحقيق ذاتها، فالكلمة عنده اشبه بوتر داخلي يبث (نوتاته) من اعماق التجربة الصوفية.. لذا تقصاها بدقة وتجربة ليقف على تلك النغمة الروحية التي تحتضن تجربته الروائية..
    (ذاكرة الانسان الواحد الذي عرف ان المطلق موجود.. وهو مع ذلك ليس شيئا ولا هو لا شيء..)ص91.
    (هذا يصحح لما يقال في تعريف (الله) (انه شيء لا كالاشياء) لان الشيء تحديد..)
    (الخطوة باتجاه الغيب ايها المريد كانت قد اكلت آلاف الحضارات..) ص93
    وهكذا نجد ان المريد وشيخه يلتقيان في عالم الوجود المتأمل بعد ان التقيا فمات الصمت المحكم بأحكام المعرفة..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة