القسم الثاني ..
ناجح المعموري
معجم القريشي ينبوع متدفق ، لغته جراحة ، سحرية النصوص الشعرية في ديوان ” تجاعيد الماء ” لينة ، شفافة موسيقاها تومئ لإيقاع الداخل والظاهر فوق السطح المائي ” المألوف متحرك وراقص هذه هي صورة الماء ” .
قال بلزاك ” ثمة اسرار خفية ، مخبوءة في كل كلام بشري ، لكن السر الخفي ليس بالضرورة في الاصول ، في الجذور ، في الاشكال القديمة …. ثمة الفاظ في قمة الازهار ، في وهج الحياة ، الفاظ لم ينجزها الماضي ، ولم يعرفها القدماء ، معرفة كاملة ، الفاظ هي الجواهر المكنونة للغة . تلك هي لفظة ” نهر ” . في فلسفة باشلار المعنية بالماء واحلامه ذات التاريخ العميق في الحضارات ، التي تعرفت على اصوات غير مباشرة للماء ….. الماء من بين العناصر كلها ، اصدق مرآة للأصوات .
وقال باشلار في كتابه الماء والاحلام / دراسة عن الخيال والمادة . للماء كلام صوت الماء وايقاعاته هاربة . واليومي في حياة الراوي هارب حتى الطرقات متضادة مع حركة الكائن ، وتبدو الموجودات مشوهة محصورة في مكان محدود ، مثير لمخاوف مهدي القريشي واحزانه . وايضا الطرقات المفتوحة مغلقة ببوابات مرتعشة تحت ضغط التعب والنعاس البوابات رمز متنوع ، ذاكرة ، وخزان مرويات . الباب ، مذكر وانثى وعبره يتحقق الاتصال الادخالي وكأن هذا الرمز حاضر مع الماء الذي يومئ للاتصال الاول : الطرقات التي هربت خطواتنا / نحو خاصرة كثيفة الاحلام / الطرقات التي انتهت الى بوابات / مرتبكة بالنعاس / ومقموعة باللذة …. // الطرقات التي تناسلت خديعة / لوت اقدامنا باتجاه المقابر / الطرقات التي في اسفل الدمع / طرقات اطراف المدينة …/ الطرقات الموحشة لقلة سالكيها / مجنونة مثل اشرعة خانتها الريح ص 52//
الماء في نصوص الشاعر عنصر أولي . واللغة فيها روح البدئية بما فيها من دلالات غير متعطلة . بل متحركة ، فيها المعنى والمعاني سيرورة . الماء وتجاعيده مختلف عن الذي رأيناه في اماكن غفيرة … انه ماء المتخيلات الذي التقطته اللغة الجديدة . الشعر والماء المتخيل غير الذي يتعاشق معه في كل لحظة انه الذي ينفلت ويتحرر من قيود التعرف الما قبل . الماء يومئ لنا ويحضن الماء وصورته البدئية الذي مكان امومياً وابوياً . عرفنا الماء المتخيل في شعر القريشي على طوفان احلامه وتحول مرآة الجمال والحاضن لانوثة لايذة بالذكورة .
قال باشلار : الطمى هو غبار الماء ، كما ان الرماد غبار سوف يعطي الرماد او الطمى ، والغبار ، والدخان ، صوراً تتبادل مادتها الى ما لا نهاية من خلال هذه الاشكال المقلصّة تتصل المواد الاساسية ، وهي على نحو ما غبار العناصر الاربعة و ” الطمي مادة من المواد المقومة بقوة كبيرة . بهذا الشكل ، حمل الماء الى الارض ، على ما يبدو ، حتى مبدأ الخصوبة الهادئة الوئيدة المطمئنة في احواض الطمي .
الماء الذكوري معروف في اساطير سومر . وذكرناه في ابتداء المقال والماء انثوي ايضا … انكي هو الماء العذب ، ماء القلب المتدفق من ذكورته وملأ به الفرات ودجلة . وللتنصيص اكثر عن طاقة الماء المزدوج الدلالة اسجل لاختتم مقالتي بمقطع شعري دال على المعنى المحفوظ بالأساطير السومرية .
…. وكما في الازمنة الغابرة
يُمكنكِ ان تنامي في البحر
وحفلت اناشيد ” الفيدا ” بالحليب وطاقته النفسية وقد استثمره لدلالته الرمزية الكبيرة الشاعر والمفكر بيير سانتف : المياه التي هي امهاتنا الراغبة في الاشتراك بالنذور ، تأتي الينا متتبعة سلبها ، وتوزع علينا حليبها . قد نخطئ حقاً اذا لم نر سوى صورة فلسفية غائمة ، حامدة الله على خيرات الطبيعة . فالالتحام اكثر حميمية بكثير ، وعلينا في ما نرى ، ان نعطي الصورة مطلق الكمال … ان الماء في منطور الخيال المادي ، غذاء كامل مثل الحليب / الماء / والاحلام / ص 176//
قال الشاعر ” بوكو فسكي ” : ولكن كما قال الرب / وهو يضع ساقاً على ساق / ارى اين صنعت الكثير من الشعراء / ليس كثيراً من الشعر / يفيدنا هذا القول بالتأشير الدقيق على الشاعر مهدي القريشي فهو بين القلائل من الشعراء الذين كتبوا شعراً ، عرف كيف يتسلل الينا ويقودنا بليونة سحرية ، واحيانا بغطرسة ، مع صوت ضحكات مرنة ، هادئة ، منسابة في الفضاء ، مقلدة تجاعيد الماء ، وهمسات ” الساقية العامية ” حسب مصطلح باشلار .
” تجاعيد الماء ” عنونة ذكية ، حاوية على ازمنة وتواريخ ومرويات . والمثير في هذه العنونة زحمتها بكلام يتكلم كما قال هايدجر عن تراكل . هذا الماء ” المرشوش ” في النصوص يتكلم كثيراً لدرجة يصل فيها الى الثرثرة الصادمة واحيانا كلام صامت ، يرسم لنا ملامح واشارات لا تقول كلاماً مسموعاً ، بل تصرخ بمسموعات ، تظل مترددة مثل الطنين .
البلاد / التي تلعب في حضن الموت / عارية / تنام بعين واحدة / تتحشرج في حنجرتها نفايات الموسيقى / خوفاً من يقين الظلام / هي بلادي / البلاد / التي كلما غسلت شفاهها / ضحكات الاطفال / ازدادت سواداً تودع الشمس قبل الاقوال / وتدخر مبلغاً من النوم / يقظة الصباح بمقاربه .. هي بلادي //
تسامت اللغة ، وشفت عن وقائع ومرويات عامة ، هي الروح الكامنة في الحياة ، تسلل لها الشعر السري ، وامسك بها واعاد قولها ثانية وثالثة ورابعة ، حتى الى ما لا نهاية . وارسلها لنا ، فالبلاد ، بلادي ولها خزان سرديات ، تتسلل بالسر ، ويلتقطها شاعر حساس ، ماهر ، مخلق ويعيّد عجنها ، ويكتب على طينتها احلامنا التي كمنت في ذاكرة البلاد .