د. سمير الخليل
في فصل (حدث في الشلفة- من وحي غناء سيد محمد) حاول المؤلف أن يقترب من الحزن العميق الذي يتصف به سكنة الأهوار (المعدان) وغناؤهم. لقد انقاد في اطروحاته إلى مزاج الإنسان المحلي، وتطيّره، وذهوله إزاء غموض وجوده وسط طبيعة خام غير متعينّة ولا مروضة، كان الأمر يتمثل، بالنسبة إليه، في دراسة الثقافة الأكثر “عتاقة” في الاقتراب عن طريق سبر ذاكرة المكان من خلال السيرة الذاتية لـ”سيد محمد” من المسلّمة القائلة بأن هذه الثقافة تقدم للمحلل الأشكال الأولية للحياة الاجتماعية والثقافية التي لا يمكن أن تصبح إلا أكثر تعقيداً بقدر ما يتطور المجتمع، وباعتبار أن البسيط، تعريفاً، أيسر إدراكاً من المعقد، وجب البدء بدراسة الثقافة .
بدأت محنة “سيّد محمد” عندما وشى أحدهم في إذن أبيه “سيّد كاظم”: ((أتعلم يا سيّد أن ابنك سيّد محمد يغني؟)) عند ذاك استشاط الأب غيظاً وقرفاً، سرعان ما طلب رؤية ابنه، وحين حضر أجلسه بقربه وحثه على الغناء. شم الابن رائحة الفخ في رغبة أبيه الغريبة، لاسيما وأن أباه يتطير من الغناء ويستهجنه بقوة، فهو سليل الدوحة الهاشمية، واحد الرموز الدينية الهامة في عالم الأهوار وموقعيته وكارزمية أسرته العلوية مرتبطة بشرف الأرومة والمحتد والعصامية والتعفف، والابتعاد عن كل الموبقات، والغناء والطرب أحد هذه الموبقات، بل أتعسها تحريماً وتجريماً.
ولأن ساعة المواجهة والحسم اقتربت فلم يجد سيّد محمد بداً من احترام طلب أبيه، فصدح صوته العذب، القوي، في فضاء “المضيف” الخالي إلا منه وأبيه، وجاء غناؤه كخلاصة لكل أوجاع الناس التي ترسبت في أعماقهم وفي سطوح المكان وقيعانه. عندما أنهى نزف أبوذيته، نظر إلى عيني والده، فهالته غزارة دمعهما المنحدر، ومع هذا أعد السيّد عدته لتلقي ثورة أبيه، ثورة البخت والحناء التي تسم مقدم المضيف وجوانبه البارزة، ولتأريخ من الكرم والكرامات والفضائل والشارات (المعجزات التي يجترحها السادة). فتح السيد كاظم عينيه وسأل ابنه بهدوء لا يناسب ثورته القادمة: ((ما الذي يجبرك على النار؟ لماذا تغلّ إصبعك فيها طائعاً؟ لقد اخترت ما لم يسبقك إليه أحد من السادة… والآن اسمعني جيداً، أمامك خياران: أما أن تعاهدني على ألا تغني بعد الساعة، وإن رفضت فلا مكان لك هنا، لم يبق أمام سيّد محمد إلا حسم قراره المصيري، فغادر المضيف والهور ومضارب السادة والكحلاء والشلفة وحتى العمارة إلى غير رجعة: كمن يطير بجناح واحد حلّق السيّد محمد في سماء بغداد المكفهرة، ثقيلة الهواء. دمه يعطب قطرة قطرة، ذلك لأن الذاكرة لم تمنحه في بغداد ما يعدل به توقه إلى الشلفة والحنين إليها. لم يعد يملك غير صوته سلاحاً يردّ به على نفسه شراسة الوحشة الناهشة في مدن لا تشبه الشلفة ولا تعرف جرس إيقاعها)) (ص79).
إن إثارة مسألة ثقافة المجموعات المهمشة تؤدي، لا محالة، إلى إثارة الجدال حول مفهوم “الثقافة الشعبية” فقد تدخلت العلوم الاجتماعية متأخرة نسبياً في هذا النقاش الذي كان في البداية من فعل المحللين الأدبيين خاصة، إذا كان منحصراً في تمخض الأدب المسمى “شعبياً” وخاصة منه الشعر الشعبي والأغنية الشعبية والحكايات الشفاهية وحتى الدراما التلفازية. لاحقاً وسّع دارسو الفلكلور الوطني بأن اهتموا بالتقاليد الفلاحية وتتبع العادات الشعبية، ولم يقارب علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا حقل الدراسة هذا إلا منذ أمد أقرب.
يشكو مفهوم الثقافة الشعبية، أصلاً، من غموض دلالي، اعتباراً لتعدد معاني الكلمتين اللتين تكونانه، فالكتّاب الذين يعمدون إلى استخدام هذه العبارة، والدكتور سلمان كيوش واحد منهم، لا يقدمون كلهم التعريف نفسه لـ”ثقافة” و/ أو لـ”شعبية” وهو ما يجعل الجدال بينهم عسيراً بحق . من وجهة نظر الدراسات الثقافية يتوجب، بالتوازي، تفادي أطروحتين أحاديتين متعارضتين كلياً: الأول التي يمكن نعتها بأنها انتقاصية للثقافات الشعبية لا تعترف لها بأية حيوية أو إبداعية خاصتين بها. فليست الثقافات الشعبية، في نظرها، إلا مشتقات من الثقافات المهيمنة، وهذه وحدها هي التي يمكن أن يُعترف بشرعيتها، وهي التي تتناسب، إذن، مع الثقافة المركزية، الثقافة المرجعية، والثانية ليست الثقافات الشعبية، في نظرها، إلا ثقافات هامشية، فلا تكون، إذن، إلا نسخاً رديئة من الثقافة الشرعية التي لا تتميز الأولى منها إلا عبر صيرورة تفقير، إنها ليست إلا تعبيراً عن الاستلاب الاجتماعي الذي يمس الطبقات الشعبية الفاقدة لأية استقلالية، كما أن الاختلافات التي تتعارض فيها الثقافات الشعبية مع الثقافة المرجعية، في هذا المنظور، يتم تحليلها، إذن ، على أنها حالات نقصان وتحريف وعدم فهم، بتعبير آخر، إن الثقافة “الحقيقية” الوحيدة هي ثقافة النخب الاجتماعية إذ ليست الثقافات الشعبية إلا سقط نتاج غير مكتمل.
في مقابل هذا التصور البؤسوي، تقوم الأطروحة التضخيمية التي تزعم أنها ترى في الثقافات الشعبية ثقافات يتوجب اعتبارها مساوية لثقافات النخب، بل أرقى منها لأن لها امتدادات مع ثقافات الماضي القريب والقديم. إن الثقافات الشعبية، في نظر حملة هذه الأطروحة ، ثقافات أصيلة، ثقافات مستقلة تماماً، لا تدين بشيء لثقافة الطبقات المهيمنة، ويصرّ أغلبهم على تأكيد أنه لا يمكن أن يكون هناك تراتب بين الثقافة الشعبية والثقافة النخبوية العالمة (بكسر اللام).
الحقيقة أكثر تعقيداً مما تقدمها عليه هاتان الأطروحتان القُصويان. إن الثقافات الشعبية لا تبدو، لدى تحليلها، لا تابعة بصفة كلية ولا مستقلة تماماً ولا مجرد مقلدة ولا مجرد مبتدعة، وهي في ذلك لا تزيد عن تأكيد أن كل ثقافة معينة هي تجميع عناصر اختراقات أصيلة وأخرى مستوردة، إنها، مثلها مثل أية ثقافة أخرى، ليست متجانسة، إذن ، ولكن ذلك لا يعني أنها غير منسجمة . الثقافات الشعبية هي ثقافات مجموعات اجتماعية تابعة، فهي إذن تتكون في وضعيات هيمنة، على أساس هذا الاعتبار ألحّ عدد من علماء الاجتماع على ما تدين به الثقافات الشعبية لجهد المقاومة التي تبديها الطبقات الشعبية تجاه الهيمنة الثقافية، إن المهيمن عليهم يردّون على الفرض الثقافي بالسخرية والاستفزاز وبما يتعمدون إظهاره من “رديء الذوق” يوفر الفلكلور وخاصة الفلكلور العمالي، أو إذا أخذنا مثالاً أكثر دقة، الفلكلور الفلاحي عدداً واسعاً من هذه التجسيدات وأساليب القلب أو التصرف الساخرة في معالجة التلقينات الثقافية، الثقافات الشعبية، بهذا المعنى، هي ثقافات احتجاج.
في ((“مصقولة: بطعم الحنظل)) يستثمر “سلمان كيوش” هذا الفهم للاحتجاج موظفاً الحزن السرمدي “حزن المعدان” إلى أقصاه وقد وصم المكان الجنوبي وذاكرته ، والأغنية الريفية ومطربها، والإنسان الطيب، والزمن المتخثر بدمغته المعتمة: ((في الشلفة كما في كل قرى مسيعيدة، يمتهن الناس الحزن، يجاورونه، يحاورونه. الحزن سيّد لأنه يوهن الوهم الكبير الذي يعترش قلوب الناس كشجرة حلبلاب، فيغنّون انتشاءً بفعل خمر الحزن المعتق ونبيذه، يسكرهم حزنهم الذي يعرفون الطريق إلى جذوته منذ ألفوا موت الآلهة. يمضع الرعاة في الشلفة حزنهم حين تنفد مؤونتهم وهم يحدقون في عيون مواشيهم، وتحيله النساء إلى نعي وهن متشحات بالسواد، ينشرن شعورهن المنقوعة بالنفط تحت الشمس، ويستعيذ الأطفال بالحزن من شر العتمة التي تحل سريعاً قبل أن يوقد الكبار “البطالة”))(ص73 وما بعدها).
وإذا كان هذا الجانب “الحزن البليغ” متأكد الوجود في الثقافات الشعبية فمن غير المؤكد أنه كافٍ لتحديدها، إننا إذا ما بالغنا في التأكيد على هذا البعد المتمثل في “رد الفعل” فإننا نسقط من جديد، إلى هذا الحد أو ذاك، في الأطروحة الانتقاصية التي تنكر على الثقافات الشعبية أية ابداعية مستقلة. ليست الثقافات الشعبية، مثلما يلحّ على ذلك النقاد الثقافيون، مجنّدة باستمرار في موقف دفاع نضالي. إنها تشتغل أيضاً في وضع “استراحة”. إن الآخرية الشعبية لا توجد كلها من الاحتجاج . هذا فضلاً عن أن قيم موقف المقاومة الثقافية وممارساته لا يسمح بتأسيس استقلالية ثقافية تكفي لانبثاق ثقافة أصيلة، إنها ، على العكس من ذلك ، تؤدي بالرغم منها، وظائف اندماجية لأنها “قابلة للاحتواء” بيسر من لدن المجموعة المهيمنة (مثال فلكلور الحزن العميق مناسب في هذا الصدد أيضاً). دونما نسيان لوضعية الهيمنة، فمن الأصح، ولا شك، اعتبار الثقافة الشعبية بوصفها مجموعة من “طرائق التلاؤم” مع هذه الهيمنة أكثر مما هي نمط مقاومة نسقية ضدها.
الثقافة الشعبية بوصفها الثقافة التي تحافظ على ذاكرة المكان من المحو والنسيان هي الثقافة “الاعتيادية” للناس الاعتياديين، أي ثقافة تصنع يوماً بيوم، خلال الأنشطة العادية والمتجددة، يومياً، وفي آن معاً . بالنسبة إلينا، لم تنته الإبداعية الشعبية، ولكنها لا تكون ، ضرورة ، في الموضع الذي نبحث عنها فيه، ضمن الانتاجات القابلة للرصد والتحديد بوضوح، إنها متعددة الأشكال ومبثوثة : إنها تتفلت سالكة ألف درب.
إن الانتاج المعقلن والمميز والتوسعي والممركز يقابله انتاج آخر، لم يعلن عن نفسه بمنتوجات خاصة به، ولكنه مستخرج من ذخائر الماضي، يتميز بطرائق تتلاءم مع واقعنا الوطني ، طرائق استعمال يفرضها النسق الاقتصادي المهيمن، هذا ما أراد أن يوصله الينا “سلمان كيوش” طوال زمن القراءة.