د. سالم شدهان
في زمن لا يتجاوز الأربعة دقائق أعلن فيلم أنين الماضي عن صرخة مدوّية ليس جديدة على السينما ابدا لكنها جديدة من حيث الاشتغال والمعالجة الصورية التي اعتمدت على حكاية متداولة ومنتشرة بكل مكان الا وهي سوء تعامل الاب المشغول بلعب القمار مع ابنته الصغيرة التي فقدت امها بوقت مبكر وما يترتب من افعال وتأثيرات اثر هذا التعامل.
يبدأ الفيلم بمروحة وهي تدور معلنة عن بدأ الحكاية ورحلة الألم من خلال بناء يعتمد على تقنية ال(فلاش باك) , فتاة شابة تجلس في مكان نصف مضيء تكرر اللقطة لأكثر من مرّة بمساحة حركة تبدأ من المروحة التي تدور ببطء الى الفتاة, وهنا اشتغال ينبأ بفهم واضح لروح الحكاية ممزوج بفهم لغة التعبير السينمائية اعتمادا على قوّة تعبير الإضاءة والحركة والربط ( المزج) مابين كتلتين مختلفين في سبيل بناء فكرة تعلن عن الوضع النفسي المظلم للشخصية التي ينوي الفيلم ان يعلن عنها.
لم تنسى المخرجة ان تقول لنا ان زمن جريان الاحداث هو نهار وليس ليل من خلال الضوء المتقطع الذي يدخل من خلال الشباك وفي هذا دلالة عن الوضع النفسي الذي تعيشه, اذن الظلام ينطلق من طبيعة روح الشخصية التي تنهض وتتناول صورة والدتها المتوفية بكوادر جميلة مدروسة بدقّة متناهية وبتقسيم مساحة الصورة الى أجزاء تنبع من قوّة التعبير وضروراته الدراميّة, ثم ينطلق صوت الفتاة لتتحدث عن معاناتها وحكايتها الحزينة بحوار لا يحتاجه الفيلم اطلاقا لأن الصورة و بناءها التشكيلي قدّم لنا اكثر مما قالته الكلمات ولم تعد هناك اية حاجة للكلام الذي نسمعه مرغمين, وهنا تحدث انتقاله الى الماضي جاءت بوقتها ولم تكن مقحمة ابدا اذ تم الاشتغال على الصورة مجتمعة لكي تضع مبرّرات منطقية على ضرورة الانتقال الى الماضي وذلك من خلال البناء السردي الصوري المعتمد على جريان الافعال الناتجة من الحركة والاضاءة وجمالية التكوين الذي عنى كثيرا بأحجام اللقطات وتقسيم الكتل الثابتة والمتحركة ووضع كل جزء من الصورة بمحله ومكانه الذي يخدم الموضوع ويعلن عن سبب وجوده, الطفلة التي تكتب وترسم وتداعب لعبتها التي تمثّل روحها الحقيقية, تسرّح شعرها بابتسامة جميلة تم التعامل معها بلغة سينمائية حجما وحركة وضوء ولون وزمن لقطوي يصب في المهم والأهم , الضروري والأكثر ضرورة الى درجة انّنا ان هناك ولو ثانية اتت لم تساهم في تطور السرد الذي يعتمد على الصورة ولغتها التعبيريّة , وبينما هي تعيش هذا الجو المحبّب لها يأتيها صوت ابيها الذي يأمرها ان تجلب له الشاي بطريقة امرة بشعة تجعلها تفزع بشدّة , و يبدأ الفيلم بالكشف عن شكل الظلام الذي يعتري الشخصية , وتنتقل المخرجة الى مشهد جديد مبني بطريقة سينمائية واعية من حيث الحركة ال(سلوموشن) الذي جاء استخدامه بمنتهى الجمال ولضرورة درامية تكشف عن الخلل في تعامل الاب مع ابنته ,الخلل بشخصية الاب وقسوته مع البنت الصغيرة ,وبعد صرخة الأب البشعة يكون الفيلم كشف عن معظم بنيته وموضوعه وحبكته بأن واحد , ويتم معالجة كل هذا بلقطات قريبة مرسومة بوعي تام للأب وجماعته وهم يلعبون الورق ,وبالرغم من بساطة التجربة لكني ولأول مرّة اشاهد فيلما لمخرجة عراقية تتعامل مع احجام اللقطات في هكذا جمال ووعي ,لا بل انها قدّمت لنا لقطات بتكوينات محصورة بخصوصيّة الموضوع لا أكثر ولا أقل ,ففي اللقطة التي تدخل بها الطفلة وهي تحمل الشاي تتحرّك الكاميرا قليلا لأحد لاعبي الورق وتفتح مساحة مابين اليد التي تحمل الورق والأخرى تحمل سيكاره, تدخل الفتاة من خلال هذه المساحة وهي تحمل الشاي بحركة بطيئة وهي مرعوبة فتسقط هي والشاي ويبقى في الكادر يد الرجل وهي تحمل السيجارة المتوجرة وسط غضب والدها الذي يرميها بقداحته وكأنه ينوي حرقها فتسقط القداحة وبلقطات كبيرة وبتكوينات دقيقة جميلة تحاول الطفلة ان تسحب القداحة وكأن ذلك غاية بالنسبة لها , ثم ترفع يدها لإنقاذ نفسها من يد والدها الذي يسحبها من شعرها ,ثم تخرج غاضبة بعد ان اخذت بيدها اداة الجريمة (القداحة ) كل ذلك يجري بلقطات مبنيّة بزمن محسوب تماما يشبع العين والقلب والفضول وكأنها رسمت قبل التنفيذ وبأداء ساحر من الطفلة التي مثّلت بوجهها وشعرها ويديها وكل جزء منها , تخرج البنت غاضبة والكاميرا تتحرك معها دون ان تقطع بين النصف الاخير من غرفة ابيها والنصف الاول من غرفتها والقاطع الذي بينهما يتلاشى لتبدأ المرحلة الاخيرة من حياة البنت التي تدخل الى غرفتها غاضبة وتحيطها العابها من الجهتين , وتبرز لعبتها على يسارها بكتلة كبيرة ,تأخذها البنت بعد أن ترمي اوراق الرسم على الارض, ثم تتناول اللعبة وتنظر لها بلقطة كبيرة وهي تشيّعها ثم تشعل بها النيران من قداحة والدها وترميها على الارض, النيران التي تعلن عن الخسارة المتوقدة في قلب الطفلة , ثم لا تجد من يواسها سوى صورة امها التي ترافقها من بداية الفيلم الى نهايته, وبينما هي منشغلة مع الصورة تشعر بقوّة الاحتراق بملابسها فتصرخ صرخة مدويّة اقوى وابلغ من الصرخة التي تحدّثت بها البنت في حوار لا يجدي ولا ينفع بل اضرّ بالفيلم , ومع الصرخة وانتقاله للبنت التي احترق نصف وجهها واصابه التشوّه , تمد يدها لتحمل لعبتها , ثم ينتهي الفيلم وتنزل كتابة تعلن فيها المخرجة بأنها تبغي من الفيلم ان يكون صرخة ,وهذه الكتابة هي الاخرى لا يحتاجها الفيلم لأنه كان فعلا صرخة قويّة بليغة التأثير بعد ان تم صناعتها بفيلم انيق المظهر دقيق البناء محبوك بإيجاز واع اشتغل فيه البناء التشكيلي وحركة الكاميرا والتمثيل والضوء والحركة البطيئة بأجمل اشتغال ووعي .
متعة جمالية حقيقية يعيشها المتلقي الذي يعيش هذه التجربة الشبابية المتفردّة الاشتغال, فاللقطات فيها عبارة عن لوحات تعبيريّة مرسومة وتشتغل فيها جميع عناصر التكوين السينمائي لخدمة الموضوع ولزيادة روعة الفرجة التي يتمناها متذوقي السينما , كما لا يفوتني ابدا أن اشيد بجميع الممثلين الذي قادتهم المخرجة ببراعة كبيرة بدأ من الطفلة والشابّة والأب والأصدقاء, وكان كل ممثل يتحرك ويتفاعل وفق خطّة دقيقة لا يجيدها الاّ المحترف الذي تمرّس في السينما ولغة تعبيرها , فالكل فهم كيف يتعامل مع حجم اللقطة وقوّة الفعل ونوعه ودرجة اشتغاله الوظيفي , وهذا يحسب للمخرجة التي احسنت قيادة الممثل ونجحت في اختيار طاقم العمل من مصور يعي ما يفعل بعلمية سينمائية وهذا ليس غريبا عن الفنان احمد الهاشمي الذي له عدة افلام مخرجا ومصورا لكنه هنا اشتغل بحرفة مصور واع جدا ومونتير ومصمم اضاءة ولهذا ظهر هذا الفيلم البسيط الفكرة بأجمل صورة وابلغها وبهذا برّر سبب وجوده وضرورة الكتابة عنه.