التشكيلية الفلسطينية منال ديب:
حاورها: سمير خليل
هناك، من الارض الطيبة، المحتلة، تأبطت موهبتها وحنينها وذكرياتها وحلقت صوب فضاءات الغربة الموحشة، في غربتها نضجت تجربتها اطلقت لذائقتها وفرشاتها العنان فأثمرت صورا تحمل بين ثنايا الوانها ذكرى وطن واناس مسكونين برغبة الخلاص والانعتاق، تنوعت لوحاتها بين همومها كامرأة وهموم شعب جل امانيه ان يعيش حرا بين اشجار الزيتون التي تحرسها العتابة والكوفية والعقال، بين ضحكات الاطفال وكركراتهم الوجلة تحت بندقية المحتل، طوعت الحرف العربي واستضافته في اعمالها ليشاركها الوجع والحنين، لم يتوقف طموحها عند الرسم كحرفة وابداع بل واصلت الغور في آفاق الفن ووظيفته الانسانية.
وحصلت على شهادة البكالوريوس في سايكولوجيا الفن من جامعة مايسن في الولايات المتحدة، الرسامة منال ديب امريكية الجنسية فلسطينية القلب والروح والهوية، حفرت اسمها بالوان ذهبية في سفر التشكيل العالمي فنانة عربية، فلسطينية بارعة، “ثقافية الصباح الجديد” استضافت هذه المبدعة في حوار شيق متنوع، فبدأت اولا بالحديث عن اللغة بينها وبين اعمالها، بماذا يتحدثان ؟ فقالت: حين اباشر عملية الرسم تخرج الافكار من أكثر الأعماق سرية، لا اكون على دراية بها مسبقا ولكني على يقين من السحر الذي تحمله، واسميه اللاوعي، كل عمل فني اقوم به هو ثمرة اشتباك بين عالمين في مخيلتي، اشتباك قد يبادر به الوعي مبدئيا مثل ايماني بهويتي الفلسطينية برغم الاغتراب عن وطني ، ثم يمضي ليتغذى على العوامل الدفينة في اللاوعي من ذكريات الطفولة في وطني وحبي لفلسطين، أن اقرأ الشعر لدرويش او اي موضوع في العشق والتصوف تجعل الافكار عند الرسم تثب في رأسي إلى السطح من العوالم الخفية فيعمل عقلي فيه بالتأمل والصياغة، خلال ذلك تبقى روحي وكأنها في ساحة معركة مشتعلة بأنوار الانفعالات والتوتر ومن ثم تحيلها الى لوحة فنية مدهشة، اللاوعي والقدرة على الرسم والتحكم معا يجعلان الرسمة ترسم نفسها. أنا لا اؤمن بالتخطيط المسبق لأي عمل أقوم به، أتخيّله اولا فإذا اعجبني في الخيال فهو لا بد ان يكون رائعا في الحقيقة، التجربة أعطتني الثقة بالحدس و هو أقوى حضور عند المباشرة بأي عمل جديد”.
ــ انت متفائلة، مسكونة بالامل، لكن اعمالك يؤطرها حزن شفيف.
“لقد كان للغربة أثر كبير في نفسيتي وشخصيتي وبالنهاية في تكوين فحوى الاعمال الفنية التي انجزت معظمها في المهجر، إذ بدأتُ رحلتي معها في دراسة الفن ومن ثم اتجهت لدراسة علم النفس وتأثيره في صناعة الفن، اكتسبت عمقاً فنياً وخبرة جعلتني لا اتصور انني استطيع العيش بدون الريشة او الالوان التي اشكلها بمضامين ومعاني متعددة وأتنقل بها من الواقع السلبي الذي أعيشه في الغربة وبين ما يحدث في بلادي من ظلم وهوان الى الفعل الإيجابي بإبقاء الوطن حيا وحاضرا في اعمالي، كما أن ذكريات الطفولة التي تراودني مرة تلو أخرى تتكون في داخلي في شكل ومضات لتخرج الى النور باللون والصور التذكارية رغم ما فيها من مسحة حزن و قلق بسياقات مختلفة”.
ــ في اعمالك، تغازلين الحرف العربي، هل هو اسلوب خاص أم هو ضيف على لوحاتك؟
” الخط العربي بما فيه من جمالية خاصة تجعله مادة رائعة للرسم والتشكيل، اكتشفته حين اضفته مع تعاريج الخطوط للوجوه الأنثوية من أعمالي، احيانا تجده تتمة للأنف أو الحاجب من معالم وجه المرأة أو في احيان اخرى تجلس الحروف على كتفيها كما الشال ، وللشعر العربي وقع خاص في نفسي وعاطفتي وهذا جليا وواضحا في أعمالي الفنية، المذهب الصوفي والعشق أضاف الكثير على اللامرئي والخيال في منتج اعمالي”.
ــ في لقاء سابق ذكرت ان التقدير لأعمالك لدى المتذوق الغربي اكثر من نظيره العربي، كيف ترسخت هذه القناعة؟
” ذكرت وبشكل عام ان التذوق الغربي للفن يختلف عن نظيره العربي، في الغرب ينشأ الفرد على فكرة وجود الفن في كل مكان ويتعلم هذا الفرد اهمية وقوة تأثير الفن على النفس البشرية منذ نعومة اظفاره ، أما في بلادنا العربية فقلما تجد الاهتمام بمثل هذه الامور، او أنه محصور لفئة معينة ربما في الآونة الاخيرة تجد الاهتمام قد ازداد لدى بعض المؤسسات المهتمة بتغذية الذائقة الفنية وتشجع على مثل هذه المشاريع”، وتضيف: الفن لغة عالمية يفهمها الجميع، ومن خلال تجربتي مع المعارض الفردية والجماعية التي شاركت بها في أمريكا او أوروبا ، وجدت تجاوبا ملحوظا ما بين المتلقي الأجنبي واعمالي الفنية وكل شيء غير مألوف وغريب ينجذب اليه المشاهد ويثير التساؤل عنده، ومع ذلك تجد الأجنبي يندهش لجمالية الخط العربي الذي يلتف حول الوجوه الأنثوية العربية ويعجب به على الرغم من انه لا يجيد قراءة الحروف العربية او فهم مدلولاتها في العمل، وهذا ما ارمي اليه وهو تعريف الغرب على تراثنا ولغتنا العربية العريقة والهدف الاسمى لدي هو الإبقاء على هذه الهوية التي احملها في طيات اعمالي لتبقى خالدة.
ــ في نفس اللقاء اعلنت تأثرك بسلفادور دالي، اليس هذا غريبا على فنانة عربية فلسطينية من اهم هواجسها الواقعية وليس ما فوقها؟
” وما العجب!! وكل شيء يدور على الساحة الفلسطينية الان و البلاد العربية برمتها ما هو الا الاكثر غرابة وفِي غاية السريالية والتي في نظري تدعو الفنان وبخاصة الفنان العربي الى ان يكون اكثر جنونًا من اي وقت مضى، الفلسطينيون عاشوا الواقع المرير ولا زالوا يحلمون بالعودة والرجوع والتحرر والواقع ما يفتأ يخذلهم العام تلو العام،
كما اوضحت في السؤال الاول عن العلاقة التي اتبعها بين الوعي او الواقع واللاوعي او ما نسميه ما فوق الواقعية وتداخلهما عند عملية الابداع بالرسم كذلك السرياليون فهم يؤمنون أن الفن لا يمكن إبداعه أبدا في حالة اليقظة التامة للعقل، كما يؤمنون بأن العقل يمكن أن يعطينا العلم واللاعقل فحسب يمكن أن يعطينا الفن” .
ــ من اشتغالاتك، العلاج عن طريق الفن وفن الديجتال، كيف تمسكين باشتغالاتك المتعددة وتسبرين اغوارها؟
” دراستي لعلم النفس وامتهاني الفن لسنوات عديدة وسع الافق لمدركاتي الحياتية بحيث اكسبتني الثقة بالحدس ووثق الشعور لدي لحب المعرفة والاكتشاف في شتى مواضيع الحياة، لا يمكننا الفصل بين روح الانسان كفنان وروحه في شتى الامور الحياتية الاخرى، الفنان عادة لا يستطيع أن يخطط عمله بالكامل منذ البداية بل يجب عليه أن يتركه ينمو، قد تبدو النتيجة بالغة السخافة واللا منطقية للبعض ولكن إذا تخلينا عن تحيزنا، وتركنا خيالنا طليقا، فإنه ربما يكون هذا الابداع نتيجة حلم غريب، حيث المشاعر مختلطة حيال اندماج الناس والأشياء وتبديل أماكنهم وماهيتهم.