جمال جصاني
كما هي غير القليل من المواضيع التي اقتربت من ضفاف خطوطها العامة، في مقالات ومناسبات سابقة، يعد هم اليوم “الاكاذيب” ومكانتها ودورها فيما انحدر اليه المجتمع والبلد، من مستويات لا تحسدنا عليها قبائل الهوتو والتوتسي في شتى مجالات الحياة المادية والقيمية؛ من اختصاص مؤسسات علمية وبحثية يفترض انها قد وجدت كي تتصدى لمثل هذه الملفات. لكن حال واحوال تلك الانقاض “العلمية والاكاديمية” مسكونة بهموم واولويات تخرج غالبا من مطابخ وجدت لتزويد ذائقة المتلقين بما يحتاجه من علف الاكاذيب. مثل هذه الصورة التي تبدو معتمة ومتشائمة، بمقدورها مساعدتنا على فك طلاسم هذا الاقبال الواسع والمتلهف لتلقي الاكاذيب والاحتفاء بها، على العكس من ضدها النوعي “الحقائق” التي تواجه بالصد والرد بوصفها عدوانا صارخا على ثوابتها الجليلة وفولكلورها. مثل هذه التقاليد تحولت بفعل الاعلام الحديث وما وفرته مواقع التواصل الاجتماعي وثورة تقنيات التواصل، من وسائل وامكانات وفرص؛ الى قوة فتاكة لا مثيل لها، اكدتها الاستبيانات والاستطلاعات التي اشارت الى نفوذ كاسح للاشاعة والقصص المفبركة والضجة والاكاذيب على حساب المعلومة الحقيقية.
ان سطوة ونفوذ منظومة الاكاذيب والاضاليل على تضاريس هذا الوطن المنكوب، بكل اشكال الظلم والتخلف والشعوذة والاستبداد، أمر طبيعي ولا يحتاج الى من يجادل حوله، وقد مثل النظام المباد سنامه الاعلى بما رسخته تجربته التوتاليتارية التي لا تطيق وجود اي اثر يذكرها بالتعددية والتنوع والثراء الفكري والقيمي وما يرافق ذلك من مواقف شجاعة ومسؤولة. كما ان ورثة اسلاب تلك الماكنة الاخطبوطية التي ضخت سمومها الى كل تفاصيل حياة المجتمع والدولة، لم يجدوا فيما ورثوه من خزعبلات وحذلقات “الرسائل الخالدة” وفتوحاتها واناشيدها وراياتها، اي تنافر وما يحملونه من مشاريع للاستثمار في ذلك الارث. لذلك لم يعد غريبا مثل هذا الانتشار الواسع والسطوة لسدنة الاكاذيب وقيم اللصوصية والفرهدة والشراهة وضيق الافق، في بلد افتقد من زمن بعيد لمؤسسات رصينة وشجاعة ومسؤولة لا في مجال السياسة وخدمة الشان العام ومؤسسات القضاء والسلطة الرابعة وحسب، بل تجد ذلك الوباء اشد نفوذاً عند “النخب” الثقافية والفنية والمتصدين لادامة هذا العجز والهوان في حقل الاعلام وتصنيع “المعلومة” وضخها وفقاً لثوابت وذائقة ومعايير “الزمن الجميل” وما تركه لنا من حشود المعطوب والمذعور.
بعد ان كشفت جائحة كورونا عن بؤس امكاناتنا الفعلية (افرادا وجماعات)، برز حجم الدور الذي يلعبه الادمان على اجترار الاكاذيب وما تقذفه الينا المطابخ المتخصصة في انتاج نسخه المستجدة؛ في التخبط والعجز والتيه والهوان الذي نعيشه. في مواجهة بعضهم للبعض الآخر يستعين كل طرف باكاذيبه وهذياناته وسردياته الخاصة حول الكرامة والوطن والحقوق والحريات و… والنتيجة الفعلية هي المزيد من التشرذم والاغتراب عن الهموم والتحديات والمخاطر والكوارث المحدقة بسكان هذا الوطن الممتد من الفاو لزاخو. كل هذا الكم الهائل من الاكاذيب والقصص المفبركة والاضاليل؛ ولا تجد من يشعر بالخجل، بعد أن أدمن على تقديس طفحه المحلي وشيطنة كل ما يطفح عن الآخر. اما آخر الاكاذيب واكثرها فتكاً؛ فهي التي تقفز بنا على كل ما اشرنا اليه من بلاوي، لتنقلنا الى حال واحوال لم تتجرأ احلامنا في التقرب من ضفافها، وعبر وابل من قذائف الضجيج الاعلامي تبشرنا باننا اصبحنا قاب قوسين او ادنى من الفتح المبين الذي لم يعرفه العراقيون لا في تاريخهم الحديث وحسب بل منذ المغفور له كلكامش..