المطبوع العراقي

محمد زكي ابراهيم

رغم أن المطبوع العراقي قبل نصف قرن أو يزيد كان فقيراً من ناحية الشكل والطباعة، ولم يحظ بغلاف جذاب أو إخراج متقن، إلا أنه اعتاد على الصدور بأرقام (خيالية) وصلت في بعض الأحيان إلى عشرة آلاف نسخة، ولم تقل في الغالب عن ثلاثة آلاف. وهي أرقام لا يجرؤ أي مؤلف أو ناشر على الاقتراب منها هذه الأيام. وكانت هذه النسخ تنفد في غضون سنة أو أقل، ولا يبقى منها في محلات البيع سوى الذكر الطيب، والسؤال الجميل!

وللقارئ أن يتخيل مقدار الحفاوة التي كان يلقاها الكتاب في بلد لا يزيد تعداده يومئذ عن ثمانية ملايين رجل وامرأة وطفل. ولم تكن فيه سوى ثلاث جامعات، ولا تقل نسبة الأمية فيه عن 42% من مجموع السكان. وجل ما يباع فيه من الكتب والمجلات تلك التي ترده من بلدان عربية أخرى.

كان صدور كتاب ما في تلك الحقبة حدثاً تأريخياً، فلا يتيسر الطبع إلا للقلة المختارة. وقد حدث في منتصف الستينات أن صدرت مجموعة شعرية لطبيب شاب، بطباعة حديثة، وورق مترف، وعنوان جرئ. وفيها قصائد كتبها صاحبها أثناء تلمذته في الكلية. فامتلأت الأسواق بلافتات من القماش الأبيض والخط العريض تعلن عن هذا الإنجاز الكبير. وكانت عدد النسخة المطبوعة بحسب ما هو مثبت في الكتاب (3000) نسخة، بسعر (150) فلساً للنسخة الواحدة بالتمام والكمال! وقد بيعت جميع النسخ في وقت قصير، ولم يعد بالإمكان الحصول على واحدة منها حتى في أيامنا هذه!

بل أن صدور الكتب بمختلف أشكالها كان يستقبل من الشعراء بحفاوة بالغة، ويقرض تقريضاً مؤثراً، يزيد من رصيده في السوق. وقد اختفت هذه العادة أو كادت، بعد تراجع رصيد الشعر التقليدي لدى العرب. فالقصائد النثرية لا تصلح للإخوانيات على أية حال.

وبمرور الوقت تغيرت أوضاع الكتاب، وتراجعت حظوظه. وباتت دور النشر البغدادية تؤثر طباعة منشوراتها في البلاد الأخرى. لكن الآية انقلبت هذه المرة، حتى غدا طبع (1000) نسخة ورقية حلماً من الأحلام. وإذا ما تحقق فلا يمكن أن يباع إلا بشق الأنفس. ويوزع جزء كبير منه مجاناً للأصدقاء والمحبين. ولو صدرت المجموعة الشعرية المشار إليها الآن لكان صاحبها رحمه الله سعيداً بطبع (300) نسخة منها على حسابه الخاص، ليقوم بإهدائها إلى زملائه وذوي قرباه والشبان الذين جعلهم حظهم العاثر يعشقون على طريقة قيس بن الملوح وعروة بن الورد، وليس على طريقة التواصل الاجتماعي هذه الأيام!

لقد تغير العالم حقاً، واختفت أشياء جميلة كثيرة. لكن ما حدث للكتاب العراقي على وجه الخصوص أمر محزن للغاية. ففي الوقت الذي بدأ يتطلع فيه للأناقة والكمال، وأخذت عناوينه تزداد ثراءً وأهمية، انخفضت شعبيته وقل مقتنوه. وقد يكون وراء ذلك مخاض كبير، أو موت مبكر. فكل شيء ممكن في هذا العالم العجيب.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة