أكرم عطا الله*
من يراقب سلوك بنيامين نتنياهو يعتقد للحظة أن من يتحدث هو الجنرال ماك آرثر قائد القوات الأميركية لشرق آسيا في الحرب العالمية الثانية الذي ضرب اليابان بقنبلتين نوويتين ليرغم الإمبراطور «هيروهيتو» على توقيع الاستسلام، أو كأنه الجنرال الفرنسي بيتان العائد من تحت قوس النصر بعد أن هزم ألمانيا في الحرب العالمية الأولى.
من قرأ مقال نتنياهو الذي نشره في صحيفة «إسرائيل هيوم» اليمينية يستطيع بلا كثير من الجهد تلمُّس حجم الغطرسة التي يكتب بها مختالاً كأنه العائد من أرض معركة توّجَها بالانتصارات ليضع شروط الاستسلام على الفلسطيني، والتي يقول بنفسه بأنها شروط صارمة وصعبة على الفلسطينيين، أي أنه يدرك أنهم لن يقبلوها، لسبب بسيط لأن الفلسطينيين لم يُهزموا بالمعنى التاريخي.
صحيح أن إسرائيل تمكنت من توجيه ضربات هائلة على مدار العقود الماضية للفلسطينيين، ولكنها لم تتمكن من هزيمتهم، هكذا قال أرنست «همنغواي» صاحب «الشيخ والبحر» وهو الدرس الذي لم يقرأه نتنياهو خريج معهد التكنولوجيا البعيد تماماً عن الدراسات الإنسانية والتاريخ وحركته الدائمة، معتقداً أن التاريخ توقف عند اللحظة الحالية، لحظة وصول دميته للبيت الأبيض.
الصورة التي وزعتها منظمة «مشروع انتصار إسرائيل» اليمينية في شوارع تل أبيب والتي تظهر زعيمين فلسطينيين مهزومين في معركة وخلفهما دمار كبير يرفعان أيديَهما استسلاماً، يبدو أنها التي باتت تسيطر على الوعي الجمعي لليمين الشعبوي بجناحيه القومي والديني، الذي أصبح يتسيد الحكم والشارع ويمتلك من القوة المسلحة ما يجعله يعتقد أن بإمكانه حرف مسار التاريخ وصناعته من جديد.
الخطة التي عرضها الرئيس الأميركي والتي وضعتها دوائر اسرائيلية، فمن الصعب القول إن الولايات المتحدة شاركت في صياغة هذا المستوى المبتدئ في العمل السياسي، هذه الخطة ليست بعيدة عن عقلية المنتصر والمهزوم، فمن صمم تلك المعازل للفلسطيني لا شك أنه يتوهم أنه يتعامل مع مجموعة سكانية مهزومة، وآن الأوان لوضعها في معازل متفرقة كما الهنود الحمر ومحاصرتها بالجيش «المنتصر» من كل الجهات.
على الفلسطيني التوقف عن دفع رواتب «للإرهابيين» ووقف جميع الجهود للانضمام إلى المنظمات الدولية دون موافقة إسرائيل، وسحب دعاويهم القضائية ضد إسرائيل في المحكمة الجنائية في لاهاي، تلك كما كتب نتنياهو هي شروط أولية حتى يقبل بالتفاوض مع الفلسطينيين، وعندما ينفذون تأتي الشروط الأخرى وهي الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، والاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، والموافقة على سيطرة أمنية إسرائيلية على كل المنطقة الواقعة غرب نهر الأردن براً وبحراً وجواً، ووقف التحريض ضد إسرائيل بما في ذلك الكتب المدرسية والمناهج وجميع المؤسسات، وأيضاً نزع كامل للسلاح في غزة من أيدي جميع السكان الفلسطينيين والتنازل كلياً عن حق العودة. وإذا لم ينفذ الفلسطينيون الشروط الأمنية المطلوبة منهم سيكون بإمكان اسرائيل قلب الخطوات التي نص عليها الاتفاق، إن هذه الخطة هي الأكثر وُديَّةً تجاه اسرائيل «وهي تحول تاريخي في مصير إسرائيل لأول مرة»، هكذا كتب نتنياهو في مقاله.
المقال الذي يطفح بالعنجهية لا أكثر ليس أكثر من دعوة للاستسلام، ولكن نتنياهو يعرف تماماً أن لا «هيروهيتو» فلسطينياً يتعاطى مع هذا المستوى من البذاءة السياسية، لأن الفلسطيني لم ينهزم. صحيح أنه لم ينتصر في تجربته، ولكنه لم يرفع الراية البيضاء كما الحلم الذي صورته تلك الصورة التي أمر رئيس بلدية تل أبيب رون خولدائي بإزالتها خجلاً وعاراً.
ليس مهماً نقاش ما يكتبه نتنياهو إن كان يصلح أم لا للحديث، فهذه الشروط ومستواها تم وضعها لاستفزاز الفلسطينيين، وتلك هي سياسته المكشوفة/ فهو لا يريد أي طرف لا دولي ولا محلي ولا شريك، وحتى الجيش الإسرائيلي أعلن أنه ليس شريكاً بوضع الخرائط في الضفة الغربية، لأن الاستيلاء على الضفة تحدده روايات التوراة والمصالح الأيديولوجية وليس المصالح الأمنية التي يراها الجيش، فمن يستبعد الجيش هل يريد أن يناقش خططاً مع الفلسطيني؟ ذلك هو نتنياهو.
ولكن لماذا يفكر قائد حزب الليكود اليميني ومعه اليمين بهذا الشكل؟ فكرة المنتصر والمهزوم التي يمكن استنباطها بسهولة سواء بإدارة الظهر للفلسطينيين أو باللغة والمقال أو بالصورة أو بخطة المعازل؟ لكن من الواضح أنها الفكرة التي تتلبسهم في تل أبيب وكل ما يصدر من هناك ارتباطاً بتلك الصورة الذهنية.
هناك واقع، وإن كان نتنياهو يبالغ في قراءة نتائجه السياسية، لكنه بكل أسف، هو الواقع الذي يتحرك خلاله ويصنع أفكاره والذي يستدعي هذا الشكل من التفكير، وهو أن الفلسطينيين مجموعة سكانية فشلت في تشكيل نظام سياسي اقتتلت فيما بينها على السلطة وتفشل في حواراتها منذ سنوات، وانتهى بهم الأمر إلى تقسيم ما أتيح لهم من أرض وحكم على شكل قبائل كما الهنود الحمر الذي يعيد نتنياهو تكرار تجربة الولايات المتحدة معهم.
وأمام نتنياهو عالم عربي ينهار جبل جليده الممانع للاحتلال، عالم ضعيف مجرد من أي إمكانيات في عالم العلم والقوة والتكنولوجيا، دول انهارت وبعضها تحطم وانتهى ربيعه العربي في جيب اسرائيل، وهي الفوضى الخلاقة التي ساندها ونظر لها سياسيون وكتّاب وإعلام عربي حطم نفسه، وباتت تلك الدول تزحف باتجاه إسرائيل إلى الدرجة التي يقول فيها أحدهم إنه صلى ركعتي استخارة كي يلتقي نتنياهو، والآخرون لا يختلفون كثيراً عنه.
وأمام نتنياهو ساكنٌ في البيت الأبيض ليس أكثر من دمية يتحدث كأنه جاء مفصلاً على مقياس مركز الليكود وزعيمه، وأحاط نفسه بمجموعة يمينيين مساندين لإسرائيل بلا مواربة يكتبون ما يمليه عليهم الوحي القادم من تل أبيب.
تلك الظروف هي من صاغت نظرية المنتصر والمهزوم وهي واقع وإذا كان بالإمكان العمل معاكساً، هناك ظروف لا يمكن تغييرها، ولكن هناك عوامل بيد الفلسطينيين وهي إنهاء حالة الصراع الداخلي والتشتت، وأغلب الظن إن تمكنوا من فعل ذلك يمكن تصويب الموقف العربي وإعادة لجمه من الاندلاق، وإن فعلوا يمكن للإدارة الأميركية أن تتوقف خجلاً أو خوفاً على مصالحها مع العرب. كل هذا يبدأ من الفلسطينيين وإن لم يفعلوا عليهم التوقف عن التباكي وانتقاد الآخرين وهم غارقون في الانقسام وإضعاف أنفسهم وقضيتهم…!
لكن دولة نتنياهو التي تهتز من مجموعة بلالين وتستدعي وساطات، والدولة التي تخشى حركة الفلسطينيين الدبلوماسية والدولية، والدولة التي يخاف زعيمُها من الأقلية فيها ويتصرف بذعر يوم الانتخابات خوفاً من مقعد إضافي، من الطبيعي أن يقال له من المبكر الاحتفال بالنصر، ومن المبكر أن يضع وثيقة استسلام يسميها صفقة عصر.
- جريدة الأيام الفلسطينية