د. ناهدة محمد علي
في المنطقة العربية والتي أُبتليت بمخزون النفط كثيراً ما يرتفع سعر النفط ثم ينخفض ، وكثيراً ما يتوقف ضخ النفط لأسباب سياسية واقتصادية ، لكن الدم العربي احتفظ بسعر موحد منخفض وهو قابل للانخفاض وغير قابل للارتفاع مع أن جودته تضاهي الأعراق الأخرى ، ومع أن هناك بدائلا للنفط إلا أنه لا بديل للدم البشري .
حينما إرتفع قليلاً سعر النفط حتى وصل إلى ٦٦ دولارا للبرميل منذ بداية يناير وإرتفع نفط غرب تكساس إلى ٥٩،٧٣ دولارا للبرميل انسحب هذا على سعر الدم العربي فانخفض كثيراً وفُتحت أنابيب الدم كاسحة الرئاسات والقوى القمعية المنتشرة في العالم العربي ، من السودان حيث أزاحت التظاهرات الدموية حكم البشير وغيرت القيادات في الجزائر وعَبر فيضان الدم في سوريا كل الحواجز ليدخل إلى كل بيت والكل خاسر هنا ، ولم تستطع حركات التصحيح أن تغير الواقع العربي بسبب عدم مصداقية القيادات العربية .
لذلك قامت في العراق حركات لتصحيح المسار الديمقراطي وكل أجزاء السلطة تدعي الوطنية والمشروعية لكن الدستور يؤكد على أن الشعب هو مصدر السلطات ، والحقيقة هي أن قوة السلاح هي مصدر السلطات ، وبرغم عنفوان سريان الدم الشبابي المتفجر ، لكن السلطة ما زالت في أيدي تجار النفط وكراسيهم مثبته بألف مسمار ومسمار وهذه تحتاج إلى الوقت والصبر لقلعها الواحد تلو الآخر .
إن الغريب في مجتمعاتنا هي محاولات إسكات الضمير الفردي والمجتمعي ومن أقوى أدوات الضمير المجتمعي هي الصحافة الحرة والتي لا ترضى بالمهادنة ، والأغرب من هذا هو أن قتلة الصحفيين لا يجدون من يعاقبهم لأنه وببساطة لا تستطيع السلطة أن تعاقب أزلامها .
تقول منظمة اليونسكو أن ٩٠٪ من قتلت الصحفيين لم يتم معاقبتهم في العالم بين تاريخ ٢٠٠٦ – ٢٠١٨ ، وقد أُغتيل في هذه الفترة من الصحفيين في العالم ١١٠٩ ، وأعتقد أن الرقم هو أكبر من هذا بكثير ولأن هناك الكثير من القتلة في الظلام والكثير ممن يُنسب فاعل الجريمة لمجهول ، والكثير ممن تُبرمج وفياتهم على شكل حوادث مرورية أو حالات الغرق والسقوط أو الانتحار حتى تصبح صعبة التفكيك على الرأي العام العالمي مثل حادثة إغتيال خاشقجي .
أشار تقرير اليونيسكو أن إغتيالات الصحفيين قد إزدادت بنسبة ١٨٪ في العالم ما بين سنة ٢٠١٤ – ٢٠١٨ بالمقارنة مع السنوات الخمسة التي قبلها .
لقد أخذت الدول العربية حصة الأسد في إغتيالات الصحفيين فبلغت نسبة ٣٠٪ من الإغتيالات في العالم تليها أميركا اللاتينية والكاريبي بنسبة ٢٦٪ ، ثم آسيا والمحيط الهادي ٢٤٪ . وقد أشارت المديرة العامة لليونيسكو أُودري أزولاي بأن ٢ نوفمبر هو اليوم الدولي لإنهاء الإفلات من العقاب عن الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين ورفعت شعار ( إبقو الحقيقة حية ) ، ويستهدف هذا أيضاً المراسلين الأجانب في ساحات الحرب ، وتابعت مديرة اليونيسكو سنسلط الأضواء على الصحفيين المحليين الذين يعملون بقضايا الفساد السياسي وقد شكلوا ٩٣٪ من وفيات الصحفيين خلال السنوات العشرة الأخيرة .
إن إغتيال الأقلام الحرة في العراق قد أصبح شيئا نمطياً لكل الحكومات المستبدة ، وهذا لأن هذه الأقلام تعمل مثل ( بروجكتر ) ساطع على الحقائق التي لا يُراد لها أن تُرى أو تُسمع من قبل الرأي العام العالمي أو المحلي ، فهي لا تريد أن يرى العالم البيوت المهدمة والمدارس المحطمة والسيارات ذات الدخان الأسود والشوارع المحفورة وكأن حرباً عالمية قد مرت بها وأسلاك الكهرباء الممدودة بشكل عشوائي وكأنها خيوط العنكبوت في شوارع بغداد والمجاري الطافحة والقمامة والحيوانات النافقة ، وليرى العالم بأن هناك أكثر من ٣٢٨ معملاً مغلقاً وأكثر من ٢ مليون أرملة بلا معيل ، وأكثر من ٦ مليون يتيم يهيم أكثرهم في الشوارع متسولين أو هم عمالة رخيصة وأحياناً بائعين للقمامة ، وإن سكتت الأقلام عن هذا فالكل يرى ويسمع والكل يعلم إن ما بيع من النفط منذ ٢٠٠٣ – ٢٠٠٦ هو يساوي أكثر من ألف مليار دولار والرقم في تصاعد ، وكل صحف العالم تعلم وتنطق ولا يمكن إسكاتها بكاتم صوت ، فبدل ٦٠٠ شهيد كان يمكن أن نبني بأموال النفط ٦٠٠ معمل ، وبدل ٢٥ ألف جريح كان يمكن بناء ٢٥ ألف مدرسة ، وبدل خمسة آلاف معوق وهو محصلة الأخيرة لتظاهرات تشرين كان يمكن بناء خمسة آلاف مستشفى ، وبدل ٢٨٠٠ معتقل كان يمكن أن يُبنى لشعب العراق الحزين النازف ساحات ومنتزهات ورياض أطفال .
حسب منظمة مراسلون بلا حدود أن العراق يقع في المرتبة ١٥٦ من ١٨٠ بلد في حرية الصحافة ، فهناك العديد من الأسماء المعروفة للصحفيين الذين إُغتيلوا بأيدي السلطة بعد ٢٠٠٣ أمثال أمجد الدهامات ، هشام الأعظمي ، احمد المهنا ، وحسب نقابة الصحفيين منذ ٢٠٠٣ أصبح عدد القتلى من الصحفيين العراقيين أكثر من ٤٦٠ صحفيا ، وكان آخر من أغتيل هما الصحفيان البصريان أحمد عبد الصمد وصفاء غالي .
إن الحسابات السلطوية تعطي الأولوية للعزيز الغالي ( النفط ) وليس مهماً نزيف الجسد العراقي .
إن من يُدعون بحثالات الشعب لملابسهم الرثة ووجوههم الملونة بالدخان وبطونهم الخاوية هم أنظف وإرقى من الوجوه السقيلة لصناع القرار ، وهؤلاء وإن أكلوا من بقايا الأغنياء ومن مزابلهم مضطرين وإن باتوا في العراء هم أصفى أصفياء هذا الوطن ، فقد وقفوا أمام الموت لأنهم لم يعرفوا الحياة منذ ولدوا وهم يعيشون الموت منذ سنوات ، يرونه بعيون أطفالهم وأمهاتهم وجيرانهم ، وهم لا خيار لهم إلا الموت دفعاً للموت البطيء ، وهم من سيضع الإسفين أمام نزيف الدم العراقي ، وستبقى مشكلتكم أبداً إنكم لن ولم تتصفحوا التاريخ جيداً .