ما لم يقله أبو حيان!

إنني أتفهم الدوافع التي جعلت رجلاً بحجم أبي حيان التوحيدي، يقدم على حرق كتبه في سنواته الأخيرة، ويأسى لأنها لم تستطع أن توفر له لقمة هانئة، تكفيه مؤونة العمل الشاق، وتخفف عنه ثقل السنين.
كان إحساسه بالمرارة ينغص عليه حياته، حتى قال ذات يوم:» إلى متى الكُسيرة اليابسة، والبُقيلة الذاوية، والقميص المرقع». مع أنه عاش في أزهى عصور الحضارة الإسلامية على الإطلاق، وعاصر كبار العلماء والشعراء، والوزراء والقادة، ورجال المذاهب والحديث. لكن أحداً لم يعره اهتماماً، على ما له من فضل وعلم. وصفه ياقوت ذات يوم بأنه «فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاءً وفطنة، وفصاحة ومكنة». لكنه تدارك ذلك بقوله إنه كان»سخيف اللسان، قليل الرضا عند الإساءة والإحسان»!
عاش أبو حيان أكثر من مئة عام (310 – 414 هـ) في ضنك وضيق، وبؤس وفاقة. تدبر أمور حياته في الوراقة، أي نسخ الكتب. ولهذه المهنة فضل كبير عليه. فقد اضطرته لقراءة ما ينسخه من كتب. إلا أنها لم تعد عليه برزق وفير. فكان يسد رمقه منها فحسب، ويتحسر بعد ذلك على شيء من السعة. نصحه البعض أن يقصد الوزيرين المهلبي والصاحب بن عباد، فعاد منهما بخفي حنين. وتمنى لو لم يذهب إليهما قط. وعمد فيما بعد إلى وضع كتابه الشهير عنهما «مثالب الوزيرين»!
كانت مهنة النشر وماتزال تعاني من الكساد في بغداد وسواها من المدائن. فالناس في شغل عن الكتاب وأهله. ولا أدري من الذي أخرج الإشاعة التي تقول: إن بيروت تطبع وبغداد تقرأ. فبغداد حتى اليوم كانت حاضرة الدنيا وعاصمة العالم، جعلت مفكراً كبيراً مثل التوحيدي بعد أن جاوز التسعين يندم على احترافه الأدب، ويلقم كتبه النار. ولا يسلم منها إلا ما كان قد احتفظ به في المكتبات الخاصة.
ولو اقتصر الأمر على هذه الحال، لكان له في فقراء الناس أسوة. لكنه كان يواجه بالإعراض والتجاهل من العلماء والكتاب، والأدباء وأهل الرأي، حتى رمي بالإلحاد من وجوه السلفية، ونعت بالتجديف من أصحاب الحديث. وما ذلك إلا أنه كان يرى رأي الصوفية. وبين الجانبين ما صنع الحداد.
الذين يقرأون هم قلة قليلة في كل عصر، وجلهم من الفقراء الذين لا يقوون على شراء الكتب. أما المكتبات الخاصة أو العامة، فقد كان يوقفها فيما مضى الخلفاء والملوك والوزراء والموسورون في المدارس أو المساجد أو قصور الإمارة. ولا يمكن بسبب قلتها أن توفر للناشرين أو النسّاخين ما يحلمون به من رزق وفير.
سيكرر التأريخ ذاته في عصر النفط والغاز، فيضطر الكاتب لطباعة مؤلفاته، وينفق عليها من دخله القليل، وموارده الشحيحة. ولا يشفع له في ذلك علم غزير أو موهبة متدفقة. فالمشكلة ماتزال حتى بعد تعاقب الأجيال، وتبدل الأحوال، واحدة متكررة!

محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة