يوسف عبود جويعد
يغلق الروائي عبد الله صالح الجبوري، جميع الأبواب التي تودي الى معرفة تفاصيل عن حياته، أو سيرته الشخصية أو الادبية، أو الاجتماعية، أو الاقتصادية، ليضعنا وجهاً لوجه، مع أحداث روايته ( سأروي لكم الحكاية) دون أن نجد أي مدخل يمكن أن يفضي بنا الى معرفة لمحات عن حياة الروائي، الأمر الذي يجعل المتلقي مضطر الى متابعة أحداث هذا النص، دون أن يلتفت الى سواه، وقد كتبت بلغة سردية اعتمد فيها الروائي الى أن يقوم بطل هذا النص (حسن) بإدارة دفة الأحداث التي تكونت وتشكلت وتفاعلت وانصهرت، من خلال دورة الحياة التي عاشها، ونكتشف بهذه اللغة السردية صوتين متداخلين، الاول الذي يتمثل بحسن الذي يطلعنا على تفاصيل تلك الحكاية، والذي ينبع من روح السارد ذاته والتي تكون فيه تلك الحكاية نابعة من كل المؤثرات الروحية التي تسكن أعماقه وتحيل الحكاية الى لغة فلسفية تنقل لنا معلومات هي أشبه بتلك النيرات التي تشتعل وتتوهج وتتلاعب أسنتها راقصة في ثنايا النص، عندما يزودها بالحطب الذي يضمن ديمومتها واستمرارها، والثاني هو انعكاس تلك الحكاية وتداعياتها على ذات السارد، ومن هنا ينطلق النص في مبناه السردي بإيقاع ثقيل يميل الى الهدوء والرصانة ولغة الحكاية التي يريدها أن تصل الى المتلقي، وهذا الإيقاع شكّل الانسيابية المتصلة التي دامت حتى انتهاء الحكاية، ليحقق في ذلك الاستخدام الامثل لهذه الاداة المهمة، كما هو شأنه في الادوات التي تستخدم في فن صناعة الرواية، من أجل أن يحقق العملية التوازنية بين الروائي- النص- المتلقي، ويكون المتلقي مهيأ لخوض غمار رحلته في غابة مجريات الإحداث التي بدت شائكة ومتشعبة ومتنوعة، بين الظلمة القاتمة، وظلال متناثرة هنا وهناك، وصباحات مشرقة ندية، واخرى يحوم فيها شبح الموت، حيث نكون مع حسن وهو يحاول أن يتخلص من هول الأحداث التي ألمت به في العراق بين وفاة أبيه في حرب الثمان سنوات، وهروب أمه، والعيش مع أخته، ثم يقرر أن يغادر هذه الغابة الموحشة، لنكون معه في دبي، وهو يحقق ذاته وهو يعمل في مكتب هندسي:
(بعد مرور سنة على بدء عملنا كنا ندير أكثر من سبعة عيادات طبية من أعداد وتنصيب الشبكات الخاصة بمرضاهم ومختبراتهم وأجهزتهم التشخيصية وكذلك عدد من الأسواق التجارية وشركتين لبيع المواد الالكترونية وكانت الإضافة الأهم يوم استطاع راج الحصول على الموافقة على إنشاء ما يشبه المعهد التعليمي لإعطاء دورات في تقنية المعلومات وتدريس البرامج المتعلقة بالتصاميم والرسم الهندسي، كنت سعيداً بانسجام واتفاق عماد وراج) ص 18.
الا أن هذه السعادة وهذا النشاط ونجاح العمل أشبه بذلك الهدوء الذي يسبق العاصفة، وسرعان ما تهب رياح عاتية، وتتحرك أمواج السرد متلاطمة عندما يحس حسن بسعال شديد، مع حالة اختناق، وعندما يذهب الى مراجعة الطبيب يكتشف بأنه مصاب بمرض خبيث في الجهة اليمنى من رئته، ويجب استئصالها، وبين أحداث هذا المرض وتداعياته المؤلمة تظهر حكاية حب وعلاقة عاطفية تنتهي بالزواج بين حسن ومنى، التي تعاطفت معه ورافقته رحلة علاجه وإجراء العملية والتي خرج منها بنصف رئة:
( ساءت الأمور أكثر بعد عودتنا الى دبي والجديد الذي لاحظته هو أني فقدت شيئاً من وزني وكان الوهن يزداد تدريجياً ، التنفس أصبحت أشعر به ثقيلاً يحتاج الى سحب لكي أوصله الى رئتي، القلب غزاه التعب فبدأت أشعر بدقاته كأنها تستنجد وتنذر بسوء قادم وأحياناً تغيب بعض النبضات أشعر معها كأني أسقط في بئر، الأمر الأشد إيلاماً هو فشلي لمرتين في أن يكون لي شأن ليلي خاص فبدأت منى عدم الالحاح على هذه الجزئية وتحاول طمأنتي لكن ما العمل إذا كانت رجولة الشرقي تقاس بما يستطيع تقديمه في السرير وكنت مهزوماً مكسوراً عاجزاً عن اثباتها.) ص 30
وهكذا يحقق الروائي انتقاله موفقة في مسيرة المبنى السردي، وقد جاءت ضمن السياق الفني لحركة السرد، فقد إفل هذا النشاط في العمل وأحس بطل هذا النص بأنه يعيش بنصف رئة، وعليه الإنتباه لصحته، وتلك المتغيرات جعلت الروائي يتنقل بين الصوتين السارد بطل هذا النص وهو يروي لنا الحكاية من داخلها، والصوت الآخر هو الذي ينطلق من روح حسن الذي ينقل تداعيات عميقة تنبع من هذا العمق وتتعلق بكل المؤثرات التي إحيطت به من رحلته الحياتية، ومن أجل أن يجد له مخرجاً واعني بذلك بطل هذا النص (حسن) ومن خلال صديقه راج هندي الجنسية وبمساعدته يسافر الى الهند ليعيش مع اسرة راج المتمثلة بالسيد الاب وانيتا أخت راج والأم.
وبعد أن يستقر ويتعود على الحياة في الهند، تتحسن حالته الصحية ويشعر بأنه مشافى، وتظهر تفاصيل فلسفية وفكرية وصوفية ودينية، اجتاحت أحداث هذا النص، بين الموت والحياة وتفسير السيد لهذه الحياة التي يجدها اشبه بلعبة وان الحياة الخالدة بعد الموت، وأيضاً نجد المقارنة بين حياتنا في الشرق والحياة في الهند، وكيف ينظرون الى حياتنا التي امتلأت بالحروب وهناك تفاصيل اخرى، وإسهاب كبير أثقل العملية السردية أصابها بالملل، حيث يمكن للروائي ان يقلل من هذه التفاصيل قدر المستطاع من أجل المحافظة على حركة السرد، ورغم أنها كتبت بلغة سردية وحافظت على إيقاع مبنى النص، وهي البؤرة التي اراد الروائي طرحها في هذا المسار، ثم نعود الى أحداث النص، حيث يموت السيد، وتنشأ علاقة عاطفية وجسدية بين انيتا وحسن، ويأتي راج من دبي لحضور عزاء والده الذي يحرق أمام انظاره ليتحول الى رماد وفي ذلك فلسفة اخرى سيعرفها المتلقي عند متابعة الاحداث، وبعد أن يجد حسن أن حياته في الهند وصلت الى طريق مسدود يعود الى دبي، ويتعرف على فريدة ويتزوجها، وتحصل مفاجآت داخل مبنى السرد أتركها للمتلقي، ومن خلال الصدفة البحتة يستمع حسن الى مكالمة فريدة مع الطبيب المعالج لحالته، فيكتشف أن أيامه معدودة في الحياة وأنه مهدد بالموت
(أجهشت فريدة بالبكاء وكان نحيباً أجزم أنه وصل الجيران ولا أدرى أي شعور انتابني وكلي أرتجف ولا أعرف ماذا افعل ففتحت الباب بهدوء وهربت وانا لا أدرى ممَ هربت ولا الى أين! وانا ادور في الشوارع كنت بدوامة هل الحديث كان عني؟ بالتأكيد لا، ففقدان الوزن والشهية ليس الا بسبب ما مررتُ به وهذا التعب كما دوماً اصر انه بسبب فقداني لنصف رئتي اليمنى، اتجهت الى الشركة حيث كان بيتر ينتظرني فدخلت مرعوباً ولا حظ بيتر مابي، فراح يستفسر وأنا أصر أنه يتحدث الى إنسان ميت) ص 177
وهكذا يجد حسن نفسه مضطراً الى أن يعود الى وطنه العراق، ويقضي البقية الباقية من حياته على تربته وبين ناسه واحبابه:
(ودعت أحلامي وما آلت اليه تلك الآمال الكبيرة اعلنت استسلامي وها انذا أقف في الطابور ورغم اني كنت احمل العدم بين جنباتي وكنت خيطاً من دخان ستذروه الرياح في المحطة القادمة لكني كنت حريصاً مع آخر رحلة أبحث في الوجوه عن أحد يكمل لكم الحكاية)
وتنتهي رحلة حسن بالعودة الى الوطن بعد أن خضنا غمار الاحداث بإسلوب روائي متقن، وكنا مع حسن في دبي والهند نعود الى العراق ثانية بإنتظار من يكمل الحكاية.
من إصدارات دار سطور للنشر والتوزيع – بغداد – شارع المتنبي لعام 2019