استلهام لكليلة ودمنة وليالي التوحيدي

الدكتور طه جزاع في (كابوس ليلة صيف)

شكيب كاظم

عرف الأستاذ الدكتور طه جزاع، الذي جاء عالم الصحافة؛ وهو الصحفي القديم، من الدرس الفلسفي، إذ حصل على الماجستير سنة ١٩٩٠من قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة بغداد برسالته (الفكر السياسي في فلسفة أفلاطون)، ومن ثم احتاز الدكتوراه سنة ١٩٩٤، من الجامعة عينها، وحملت أطروحته عنوان (فلسفة أفلاطون السياسية عند مفكري الإسلام) وقد أشرف على البحثين الأستاذ الدكتور ناجي التكريتي، وعرف بكتابة العمود الصحفي الفكه، وان كنت لا أميل إلى لفظ ( الساخر) كما شاع هذا الوصف على أسلات أقلام الكاتبين، ففي السخرية معنى التوهين وإلاستهانة، وقلة هم الذين يحذقون الكتابة في هذا الفن، فلقد عرفنا الأديب المصري الفكه عبد العزيز البشري (ت.١٩٤٣) فضلا عن الناقد اللبناني الكبير مارون عبود (ت.١٩٦٢)،ويجب أن لاننسى القاص والصحفي العراقي الفكه حسن العاني.
كما عرف الدكتور طه جزاع بالكتابة المكثفة، فهو يكاد يلتزم بمقولة: اختصر، اختصر حتى لكأنك تكتب توقيعا! ففي زمن التغريدات أو التبويمات التي تطلق على مواقع التواصل، ومع هذا الفيض المعلوماتي ما عاد للإنسان فضلة وقت يزجيها بقراءة طويلة، فأنت إذ تطالع كتابيه (يوتوبيا.جدل العدالة والمدينة الفاضلة من أفلاطون إلى ابن خلدون)و( ابتسم أنت في بغداد)،وحتى كتابه الرحلاتي الموسوم ( فوق الغيوم تحت الغيوم. من سلاطين ال عثمان إلى سلاطين الملايو) تجد الصفة ذاتها. حديث مختصر من غير إخلال بالمعنى، وإيصاله بأقل عدد من الكلمات، والأمر ينسحب على كتابه (كابوس ليلة صيف) الذي نشرت دار الحكمة بلندن طبعته الأولى سنة ٢٠١٩، الذي يقع في نحو ثمانين صفحة.
وإذ يتولى الروائيون- غالباً- سردهم من خلال السارد المركزي، فإن الدكتور طه جزاع، استلهاما لتراث العرب اللغوي والثقافي، إنما انطق الحمار المثقف، بما أراد هو أن يتحدث فيه؛ إنه استلهام لكتاب (كليلة ودمنة) الذي اختلف الباحثون في من كتبه، فإذ قرأنا في النسخة القديمة الصادرة في ثلاثينات القرن العشرين، وتولى تحقيقها ونشرها سيد المرصفي، وكانت من كتب مكتبة مدرستنا؛ متوسطة فيصل الرسمية قرأنا أن مؤلف الكتاب الفيلسوف بيدبا،الفه لملك الهند ( دبشليم) على لسان الحيوان، ونقل من السنسكريتية إلى الفهلوية القديمة،ومن ثم إلى الفارسية وترجمه إلى العربية ( عبد الله بن المقفع)،فان ثمة من الباحثين من ينسبه إلى ابن المقفع ذاته؛ الفارسي الذي حذق لغة العرب وكتب بها كتابيه ( الأدب الكبير)و( الأدب الصغير) ، وإنه كتبه على لسان الحيوان تخلصا من المساءلة القانونية، ونسبه إلى غيره، إلى ( بيدبا) ،لكن هذا التحرز ما عصمه من سيف أبي جعفر المنصور الذي قتله، واختلف الباحثون في سبب القتل، وأرى أن سبب القتل هو في كتاب الأمان الذي كتبه ابن المقفع لعبد الله بن علي عم المنصور، الذي خرج على ابن أخيه، حتى إذا هزم،عفاعنه المنصور،ووعده بكتاب أمان كلف ابن المقفع بكتابته،لم يرض عنه المنصور لكثرة شروطه وتحوطاته،التي لا سبيل للمنصور التنصل منها ونكث الوعد والعهد، ومنها حرمة زوجاته عليه؛ فقتله وهو ما فصلته في دراستي ( من قتل عبد الله بن المقفع؟ هل كان كتاب الأمان سببا في قتله؟) – تراجع ص١٢٣ من كتابي ( أحاديث تراثية.حين يكون التراث مرجعا وملهما) منشورات دار الحقائق.حمص.سورية ٢٠٠٨.
طه جزاع في كتابه الممتع والمؤنس الذي يقص علينا طرفا من الحياة على لسان حمار، يلقيها على مسامع الجحش الكديش الصغير، على مدى خمس ليال، ليعيد إلينا ليالي أبي حيان التوحيدي ( ت.٤١٤) الممتعة المؤنسة في كتابه ( الإمتاع والمؤانسة) كما أنه يعيد لذاكرة القراء الجادين كتاب (من حديث أبي الندى.احاديث وحوار في الأدب واللغة والفن والتاريخ) للباحث اللغوي الضليع الدكتور إبراهيم السامرائي ( ت.٢٠٠١) في أحاديثه الممتعة المفيدة.
الدكتور طه جزاع في كتابه المؤنس هذا قد شرق وغرب، في عوالم الحمير، مستفيدا من آيات القرآن الكريم فضلا عن الأناجيل ( متى)و( مرقس)و( لوقا) و( يوحنا) فضلا عن العهد القديم ( التوراة) وقراءات معمقة في التراث العربي مثل كتاب ( الحيوان) للجاحظ ( ٢٥٥)و( حياة الحيوان) للدميري (٨٠٨).
إنه قطوف دانيةمن أكثر من كتب في أدب الحمير وأعني به الأديب المصري المبدع توفيق الحكيم ( ت.١٩٨٧)فضلا عن رواية ( مزرعة الحيوان) المكثفة للروائي البريطاني المثير للجدل والنقاش جورج أورويل (ت.١٩٥٠) صاحب رائعة (١٩٨٤)وبطلها الأخ الأكبر.
وفي الكتاب وقفات عند أول روائية عراقية تستلهم عوالم الحيوان، ولا سيما الحمار، واعني الروائية الدكتورة رغد السهيل في روايتها ( أحببت حمارا) ولا ينسى الدكتور طه جزاع وهو يجوس خلل عوالم الحمار؛ لا ينسى الأديب المتفلسف مدني صالح، الذي أغدق علينا سلسلة مقالاته الرائعة يوم استكتبته جريدة ( القادسية) منتصف تسعينات القرن العشرين، لتكسر صمته الذي طال هو الذي نأى بجانبه عن السلطان الذي قد لا يعجبه قوله.
كما أنه يرد على روائي مصري، كتب رواية عنوانها ( حمار في المنفى) اساء فيها للعراقيين، إذ جعلهم لا يكلم أحد أحدا إلا بالإشارة، لأن ألسنتهم استعاضت عن الكلام بلعق حذاء السيد الرئيس (!!) فضلا عن إساءته لشعب مصر العربي والعربية، والشعب العربي قاطبة، إذ يغمز من قناة الرئيس ناصر قائلا في بداية الخمسينات من القرن العشرين ظهر في مصر صنم بشري هائل إسمه جمال عبد الناصر مشى العرب وراءه كالنعاج.
طه جزاع وهو يدير أحاديثه الشفيفة هذه، ما اوكل أمر الرد على هذا الروائي إلى حماره الكبير المثقف،بل هو زيادة في استحقاره، جعل جحشه الصغير هو الذي يرد عليه قائلا: لا لا لا. يبدو أن هذا الروائي قد خانته النباهة والرزانة وهو يعمم هذه الأفكار المسيئة على شعوب بأسرها…بصراحة لقد استحمر مثلنا.تنظر.ص ٢٧
في لقاء تلفازي جميل أجراه معه الإعلامي المثقف ( عباس حمزة) يؤكد طه جزاع تجذره بالعراق، وإذا حدث أن غادر العراق، فإنما يغادره إليه،او يهاجر إليه،انه لايستطيب العيش إلا في العراق، لذا فإنه يدير حديثا على لسان حماره المثقف، يخاطب فيه جحشه الأبيض الصغير السن، مؤكداً أن الحمير تشعر وتتألم ياولدي مثلما يتألم الإنسان. الم تسمع بمصير الحمار العراقي الذي نقلوه إلى أميركا، نقلوه من ولاية الأنبار إلى ولاية نبراسكا!(..) لم يرق له كل هذا الدلال والرعاية والاهتمام (..) إلا أنه سرعان ما نفق مهموما مكلوما غريبا ضائعا حائرا (..) لأن حميرنا مثل الكثير من بشرنا لا يطيب لها العيش إلا في أوطانها.تراجع.ص.٢٤-٢٥.
الدكتور طه جزاع يستخدم مااسميه ( التاريخ المتحرك) ولو استخدم ( التاريخ الثابت) لكان أجدى وأفضل ،من ذلك قوله»مدني صالح الذي توفي قبل عشر سنوات».ص ٦١ ولو قال.، الذي توفي سنة ٢٠٠٧،لكان أحسن، وكذلك قوله» عالم الآثار الشهير طه باقر المتوفى قبل أربعة وثلاثين عاماً» وكان يستحسن لو قال، المتوفى سنة ١٩٨٤،فهذا تاريخ ثابت لا يتغير أبدا، أما تارخته فمتغيرة مع مرور الأيام،ثم إننا لا نعرف تاريخ كتابة حديثه هذا كي نعرف التاريخ بصورة جلية.
ختاما أقف إحتراما، ولا أرفع القبعة، كما دأب على كتابة ذلك رهط من الكتاب، مع أننا لا نعتمر قبعة أو برنيطة! فهما ليسا مما يعتم أو يعتمر فيه العرب،بل الكوفية واليشماغ والجراوية، أقول أقف إحتراما للاستاذ اللغوي الضليع فارس العبيدي على جهده المضني والرائع في شكل وتحريك كلمات الكتاب، وصحة تصريف كلماته، وهذا علم لا يتأتى إلا للقلة من العارفين الباذلين.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة