يقال ان ميزة (زرقاء اليمامة) لم تنحصر بقوة بصرها، بل ببصيرتها أي؛ الفطنة وقوة الادراك. وما نحتاجه اليوم أكثر من أي وقت مضى هي هذه “الميزة الغائبة” والتي ادركها قومها بعد وقوع الفاس بالراس؛ عندما سخروا من قولها: (ارى الشجر قد أقبل اليكم…). ونحن في هذا الوطن الذي ادمنت على استباحته غزوات “الشجر” قديما وحديثاً، لم نفلح الا بانتاج المزيد من مضادات الحكمة والوعي والبصيرة، أي كل ما يتعلق بترسانة الغضب والاحقاد التي تبرر لنا نهش بعضنا للبعض الآخر. طوال أكثر من 16 عاماً على زوال أحد أبشع الانظمة التي عرفها تاريخ المنطقة الحديث، وبالرغم من اجراء اربع دورات انتخابية شهدت مشاركة أكثر من 200 كيان “وحزب” سياسي فيها، وما رافق كل ذلك من شفط لموازنات اسطورية واستهلاك كم هائل من يافطات ووعود التغيير والاصلاح والبناء وغير ذلك من مانشيتات ضخمة؛ لم نشهد أية علامات أو بصيص أمل على امكانية ظهور ضوء في نهاية نفق “التغيير” هذا.
لا يتناطح كبشان على ما تمتلكه قوى الغضب والضغينة والاحقاد من هيمنة وسطوة واحتياطات تمتد بجذورها الى ما قبل ظهور العراق الحديث، وهذا ما يمكن التعرف عليه بيسر، من خلال تراشق الاتهامات والتهديد والوعيد بين ممثلي شتى المتاريس والكتل المتنفذة داخل السلطة الحالية وخارجها. عندما نبعد ما يسمى بالقوى “العفوية” والتي تشكل شريحة الشباب العاطل عن العمل ومن فقد أبسط مقومات العيش كبشر ركيزتها الاساس، عن القوى والجماعات التي تمتلك التنظيم والتمويل والدهاء والملاكات في شتى الاختصاصات (المنخرطون في العملية السياسية والمناؤون لها)؛ سنتعرف على من سيشفط صافي مثل تلك الموجات من الغضب واليأس، والتي شكلت احتجاجات الاول من تشرين الاول تجلياً واضحاً لها. ما بعد زوال العجاج لن يتذكر احد مشوار التضحيات هذا ولا من شكل رأس رمحه من الجنود المجهولين، لاننا سنجد انفسنا امام وضع آخر وقائمة اولويات تضعها القوى الاكثر تنظيماً ودهاء وتمويلاً ووضوحا في غاياتها النهائية. اما العفوية والحماسة والاندفاع وغير ذلك من مستلزمات مواسم الهدم والتقويض، فسيتم الاستغناء عنها بعد استنفاذ كل ما يمكن أن تقوم به من مهمات.
لحزمة من العلل والاسباب المتعلقة بغرائبية المشهد العراقي، ردد الكثير من المنتسبين لنادي الانتلجينسيا العراقية، وبكل ثقة يحسدون عليها ما تم الترويج له حول عبقرية عفوية وحماسة الشباب هذه، كونها قد شكلت قطيعة وكل الارث السياسي والثوري للعراقيين…! هكذا وبكل خفة يتملقون للشباب الغاضب واليائس من كل ما يحيط به، من حكومات متعاقبة وسكراب احزاب ونقابات ومنظمات مهنية وغير ذلك من دكاكين الارتزاق الفئوي والشخصي. لقد وصل التملق والنفاق الى مستويات مثيرة للاشمئزاز والابتذال. وقد شاهدنا جميعا كيف التحق لبازار المزاودات لا ممثلي الطبقة السياسية الحاكمة وحسب بل سبقتهم اليها وبعنفوان لا مثيل له الواجهات الجديدة لـ “الفلول”، والتي تطرقنا اليها في مقال (شيم اليائس واخذ تضحياته). ان من يوهم شريحة الشباب (جسم الاحتجاجات الاساس) بقدرة حماستهم واندفاعهم وحدها على حسم معركة استرداد حقوقهم المهدورة، يحولهم بوعي أو من دونه الى نسخة جديدة من “الشجر” يتمترس خلفه صراع سافر ومكشوف بين قوى ومحاور دولية واقليمية ومحلية، يقبع في قعر اهتماماتها ما خرجوا من أجل استرداده من حقوق وآمال عادلة ومشروعة…
جمال جصاني