(بينالي) البيكونيا

اسماعيل ابراهيم عبد

في المجموعة الشعرية الموسومة (بينالي عواء وبسكويت) للشاعرة نضال القاضي(1) ثمة معرفة قيمية تعبر بإطار الشعر الى آماد فلسفية من مخلوقات وجدانية (نراها تقع) بين تجريد المعنى من الدلالة وافق المعمول الفكري للذائقة. وهو ما يمكنني تفسيره على الوجه الآتي:
1 ـ اللفظ والكلام والصياغة تنتج معمولاً عائماً من الموجودات الملومسة المهاجرة لأصلها الاستعمالي.
2 ـ تتخذ من الهلام المخلق أرضية للجملة الكلامية ذات المؤدى الموحي بهلام آخر وهكذا.
3 ـ العمل على ضم الكلام الى بعضه لتكوين إزاحة متغيرة بمستويات تأويلها. ولتجربة السفر أُعدت الشاعرة لها قوة التفاعل بالمكان وأرخته بالوقت النفسي الوجداني. ولعل السفر صار مصدرا من ضمن مصادر الحوافز الدافعة الى ميل الشاعرة للتركيب الشعري بمزاياه الثلاث المثبتة أعلاه.
لو فهمنا قصائد (بينالي عواء وبسكويت) كونها نصاً يتعمد الإزاحة المتعددة لظلال المعنى، لوجدنا مبرراً حقيقياً لما سنتممه من متابعة لتعضيد الفرائض الثلاث السابقة، لكنني ساتابع قصيدة عائلة البيكونيا فقط وسنرى أياً من الفرائض السابقة قد حققتها.
لنتابع القصائد بحسب تسلسلها في المجموعة الشعرية.
قصيدة عائلة البيكونيا والحقائق المدجنة
في بدء القصيدة قلب للحقائق وتسفيه للعلائق المادية للملموسات وصولاً الى الحقائق المزدوجة الدلالة , وهو ما سيكوّن التجريد للفعل الشعري , فضلاً عن تدجينها للمستحيلات : أ ـ علائق القلب والتسفيه
تقول الشاعرة نضال القاضي في قصيدتها علئلة البيكونيا :
الشباك معنون خطأ الى الجدار السبابة .. كيس الزبالة .. قضما المجرة وأنا الكوة .. جميعها يتعاطى عنقي .. محشرجاً مثل غابة مقايضاً على بياض: الصباحات .. بذرق الطيور على المواكب الأصابع .. بالتربة التي تغطس الجهات وتجاهر الفخامات بغسق أليف الوطن .. بحدبة ذلك الزقاق المتقادم بالحكاية حتى بيت جدي.
نجد الفعل الشعري المجرد يحتاط لظل المعنى بقلب علائق الدلالة على النحو الآتي: 1 ـ القلب الاول : انه الخطأ الصواب , إذ تُجْعَلُ الشباك لا ينتمي الى الجدار .
2 ـ القلب الثاني: انه السبابة الخطأ، لكونها ليست سلة زبالة.
3 ـ القلب الثالث: إذ الكوة خطأ تكوين، فهي منفذ وانا الشاعرة ليست سوى عنق جاهز للقطع!

  • والمقلوبات معاً تؤلف موجودات ملموسة مهاجرة لأصلها الاستعمالي لغوياً.
  • ثم يتضامن مع تجريد المقلوبات الثلاثة، كل من:
    1 ـ التسفيه الاول: يتضمن سخرية من حشرجة الذبح كونها تؤلب على وجود غابة من خضرة وأسرار.
    2 ـ التسفيه الثاني: يستثمر طاقة المقايضات الخرافية بين الصباحات والذروق , وبين الذروق والكواكب.
    3 ـ التسفيه الثالث: نوع مضخم يشتمل على ترتيب ما لا ينسجم موضوعياً من حيث النوع الوجودي , في كل من (الأصابع والتربة , الفخامات والغسق , الوطن وحدبة الزقاق , الحكاية وبيت الجد).
    ب ـ تدجين المستحيلات
    لندخل لهذا بالنص الجديد الآتي , ليتسنى لنا فهم النص أولاً , ثم فهم فنية تدجين المستحيلات :
    [شباكُ الغرفةِ يذرفُ ستائرَهُ
    كلما أخلدنا الى أسمائنا
    نفككُ الشجرةَ حدَّ السقسقة
    ونفككُ السقسةَ حدَّ العصفور
    ونفككُ العصفورَ ..
    يا أمي ..
    شباك الغرفة بقي شباك
    رغم ان الشمس عابثة
    وسريرها طويل] ـ بينالي عواء وبسكويت , ص 7 , ص8
    في هذا المقطع زحف دلالي متجدد يقيم تواصلاً غير منقطع التوليد بين الملموسات وغير الملموسات، ولعل النص هنا قصد تنميط انحراف الإزاحة لقصد القصيدة بأن جمع المعقولات لترحل الى لا معقولها:
  • لنقارب العبارة (شباك الغرفة يذرف ستائره) مع مستحيلها المقارن /
    ـ شباك الغرفة يذرف ستائره: العين تذرف الدمع.
    ـ الشباك يدفع بستائره الى الخارج، العين تخرج الدمع الى خارجها كذلك.
    ـ الشباك فتحة الضوء لغرفة البيت، العين فتحة النور لغرفة الجسد.
  • لنقارب الآتي كونه حركة لزحف دلالي جديد:
    (كلما أخلدنا الى أسمائنا / نفكك الشجرة حد السقسقة)
    ـ أَخذُ الأسماءِ / يوازي/ الانتماء والتجذير، الشجرة / توازي / النماء والتجذر في المكان.
    ـ الشجرة / اسم للجمال، والأسماء أسماء لتجميل العلم المسمى بها.
    ـ الشجرة والأسماء علامات دالة على وجود حي / توازي / علامات لوجود حي تنتمي اليه السقسقة .
  • في هذا التحول زحف دلالي من المعنى الاول (التناثر الباحث عن انتماء الى تجذر عميق ومتفاعل مثلما من يتشبث بالهوية والوجود الثابت الأصل).
  • سيحصل زحف ثالث على اساس أن:
    (نفكك السقسة حد العصفور / ونفكك العصفور …)
    فهنا تتحول الموجودات كلها الى صوت، إذ أن تبعثر الستائر وتعثر أسماء الانتماء، وتفكك جذور الشجرة يصيروا سقسقة عصفور، وهي سقسقة فرح ونحيب وحنان وطقس للجنس الحميمي المتكرر كثيراً.
    هذا التحول يدفع الى دلالة أخيرة تكمن خلف مظهر المقطع:
    (يا أمي. / شباك الغرفة بقي شباكاً / رغم ان الشمس عابثة / وسريرها طويل) , فهو عودة لواقع لا يسمح حتى بتصور جمال (ما) , عبر نور العين , أو ستائر الشباك او خضرة الشجرة .. لا يسمح حتى بمعرفة جلال ما وراء السقسقة!، فالشباك ظل يحفظ بستائره ظلمة الجدران، ومن ثم لا فائدة لوجود الشمس قربه، لأن لا شجرة تحت الشمس، بل أن الشمس ذاتها لها سرير طويل، هذا السرير من الضوء قد لا يلتفت لعصفورة (ما) تحته، ولا يحتفي بعصفورة داخل غرفته التي لا تنتمي لوجود حي! اذاّ ثمة مستحيلات جمعها منطق منسجم غير مغال بتكنيك اللغة أتاح لها ان تعيش ـ نصياَ ـ وفق صياغة مقنعة فنياً.
  • من النصوص وتجلياتها التي وضعنا إصبع التأكيد عليها، نخلص الى أن قصيدة عائلة البيكونيا هي عائلة في قصيدة، والقصيدة عنصر من وجود يرغب بالتحلق السامي لاجلال النفس البشرية , له جذور مغمسة ببهاء مكان عائلة الوطن , لا يُراد له او لها الطيران نحو سماء ليست رفيقة , ولا يُراد لهذه العائلة الوطن ان ترتمي بطين لا تروق له سعادة الخضرة والجمال .. انها عائلة ستظل تبحث عن عمق جذورها وحرارة صدر الأم التي أبرد صدرها طين الموت!

المصادر
(1) نضال القاضي، بينالي عواء وبسكويت، الشؤون الثقافية العامة , 2013
(2) نضال القاضي، بينالي عواء وبسكويت، مصدر سابق: 7 , 8 , 18

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة