يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 41
حوارات مع جرجيس فتح الله*
لا أجرأ على القول بأن ما كتب عن (قاسم) يجانب الصواب ففي هذا غلو وتنطع واستكبار اجوف. كلهم قاطبة زودونا نحن الذين لحقنا بهم بمادة مشردة أو بأحجار زاوية يمكن ان يقام فوقها بناء او بمجرد منطلق الا ان مأتى هذا التذبذب الكبير في تحليل اعماله على ضوء شخصيته وتحديد مكانته في التاريخ متأت في نظري من التركيز أو الاعتماد محوراً مركزياً اوليا للحكم على قاسم تاريخياً بما يصدر عنه من اعال واجراءات ومبادرات سياسية في حين كان الاقوام بنظري أن تعطي الاولوية او المركزية للأقوال غير المعدة سلفاً والخطب المرتجلة التي تصدرعنه واغلبها بل كلها عفوي بعثر به لسانه بوعد فجائي يقطعه على نفسه أو عمل سياسي لم يخطر بباله قبلها دائماً دفعه اليه تصفيق حاد من الجمهور متحمس يستقبله بهتاف يشق عنان السماء فيجد نفسه في مواقف ارضاء تملي عليه التصريح أو الوعد بشيء يؤمله الجمهور فيكون من وحي الساعة كما يقال واذ ذاك فقط يجد نفسه مرتبطا وملزماً بتحقيق ما وعد به في لحظه عجز عن التحكم بلسانه والا خاطر بمكانة مصداقية توهمها لنفسه عند الناس والدكتاتور هذا شأنه ووسيلته الى قلوب الجمهور وتلك طريقته المألوفة في تصريف الشؤون العامة و(قاسم) لم يقنعه أن يكون قائد ثورة شعبية فحسب بل حكم على نفسه بالجانب الاخر من شخصيته ان ينزل في التاريخ عن ذلك منزلة الحاكم الطاغية المستبد وكان مال ثورة الرابع عشر من تموز بعد اشهر قلائل _دكتاتورية عسكرية بكل مظاهرها يقوم عبد كريم قاسم على رأسها واحداً لاشريك له
س:هل لكم ان تفسروا قصدكم بعبارة الجانب الاخر من شخصيته أتعنون انه كان يعمل بوجهين؟
كلا بالضبط فالعمل بوجهين و عمل مقصود من شخص واحد ولا يفترض مطلقاً وجود شخصيتين في الفرد فلازدواجية هو مرض عقلي لاشفاء له ولا علاج تواجد شخصيتين معاً في الانسان تتنازعان السيطرة على تصرفاته بوقت واحد وليس بشرط مطلقاً ان تكون واحدة منها نزوعاً الى الخير والاخرى نزوعاً نحو الشر
أو ان يكون طابع واحد الفضيلة وطابع الاخرى الرذيلة ولقد تعقبت خطب (قاسم)ثم ماخرج من وعده وتعهداته خلالها الى ميدان التطبيق العملي توصلاً الى معرفته بالشكل الذي فات غيري لاجد بالنتيجة ماقنعني بأني اتعقب شخصاً لو لم يكن في مركز تلك المسؤولية التي قلد نفسه بها لو كان بشراً عادياً كالأخرين لوجد نفسه أو لوجوده الاخرون بحاجه الى استشارة طبيب نفساني وعلاج منتظم لم يكن الامر يبدو لي في الأول بشكل واضح وكان اول حكمي أن (قاسم ) لايختلف عمن سبقه من ضباط الانقلابات العسكرية في العراق ومااكثرهم وهو الفريق الطموح غير القانع فقبل حلول الرابع عشر من تموز ودعك في عمليه التخطيط للانقلاب كان (قاسم )كغيره من الضباط حريصاً على ضمان الترقيات لنفسه في الوقت المحدد مصحوباً دائما بذلك الخوف المزمن من نهاية المطاف أي الوصول الى سن تقاعد والخروج من ميدان الحياة النشيطة الفعالة فتأتي تلك اللحظة المنشودة ابداً يتحول دولاب الحظ الى الاتجاه المعاكس وليغدو هذا الرجل متحرراً تماماً من الخوف من المستقبل ومن متابعة الترقيات وليجد نفسه كما صمم هو ملكاً سلطاناً لا حدود له على مصائر ملايين البشر وقليل جداً من البشر من وفق السيطرة على زمام هذا الحصان الجامح أي السلطة المطلقة واستطاع كبح الرغبة في احتثاثه أحياناً الى اقصى حد.
عندا ظهر لأول مرة بطلاً كان يتهيب الجمهور ولايحاول كزميله (عبد السلام ) التأثير بقوه عارضة لم يبد لي ولا لغيري فيه علائم تدل على وجود مؤشر لظهور مرض البارانويا و نوع من الازدواج العصابي وانما بدأ يظهر بالتدريج عندما أقنع من قبل بعضهم بوجوب الظهور للجماهير والخطابة فيها
س: تحديداً بالفترة ؟أو بواقعه معينه ان امكن
لاأستطيع ذلك لكني اذكر جيداً اول خطبه له ربما كانت في أواخر آب او اوائل ايلول وتحديداً تلك التظاهرة الكبرى التي مثلت كل قطاعات المجتمع العراقي وعرفت بالمظاهرة المليونية كنت مع طائفة من المحامين في تلك المظاهرة امام وزارة الدفاع وكنت قريباً من الشرفة وقد خرج اليها بطل تموز يحف به بعض الوزراء الذين انتقاهم وتبينت بقربه (محمد حديد) وخيل لي انه يدفع به دفعاً لتحية المتظاهرين فتقدم وفد ظهر عليك ارتباك ولم تخرج من فمه غير تلك العبارات المقتضبة التي اقتضت من دقيقتين (السلام عليكم يا أبناء الشعب ياابناء الوطن أبناء الشعب هذه ثورتكم انني ابن الشعب سأضحى بحياتي من أجل الشعب _ انني في خدمتكم ) وأشفعها بأمثالها ثم انسحب وسط هتافات تشق عنان السماء .
في اليوم الثاني كان لي موعد مع المرحوم سليم الفخري وكان بين الواقفين على المنصة مع قاسم في تلك مناسبة فايد انهم وبمبادرة من (محمد علي ) دفعوا (قاسماً) دفاعاً الى الكلام فعل ولم يجد ما يقول غير هذا الذي سمعناه وارتج فانسحب مهتاجاً .
والى حين من الزمن بقي ساكتاً ولايخرج للجمهور مقتصراً في لقاءات خاصة لوفود.
تاركاً لميدان مؤقتاً لربيبه يملأ الدنيا صراخاً وزعيقاً والله يعلم كما دلت مواقفه فيما بعد كم كان يتوق الى المخاطبة الجمهور وكم بدأ فيما بعد وكأنه لايريد ان يترك منصة الخطابة الا أن الشخص الاخر فيه قاوم تلك الرغبة بشده واراه للعامة وللملأ ذلك الصابر الكاظم الوقور تاركا منافسه الثرثار الصاخبة يفتل الحبل الذي سيخمد انفاسه به في حينه كان التفسير عام لموقفه يتفق تماما ً كما احب انه ان يبدو به واتم بسكوته المطلق عن تصرفات هذا الذي وقع عليه العبء الاكبر لعملية الرابع عسر من تموز _فصله عن انصاره القوميين والناصريين الذين وجدوا في عبث عبد السلام الصبياني خطراً يهدد رسالتهم ونواياهم فلم يرفعوا صوتاً أو يداً واحده لنصرته عندا امسك القاسم ودفعه الى الهاوية وبعدها فجأة خرج (قاسم) للجمهور وصارت خطاباته للجمهور تطول وتطول وبعضها كان يمتد ساعتين وبضع ساعات وزاد اهتمامي بتعقيبها وتحليل عباراتها وكثير منها كان يرسم به سياسته الخاصة في ادارة امور البلاد وثير منها كان يفضح تلك الازدواجية لاسيما تلك الخطب والتصريحات التي سمعت منه عقب احباط محاوله الشواف الانقلابية فهنا كنت تجد (قاسماً) العسكري الذي يلذ له الاستمتاع بحق النصر حين يستخدم ضمير (اننا) قمنا الثورة بدلاً من (اني ) قاصداً تفه وليش الضابط الاخرين ثم تجد (قاسماً) قمنا بالثورة بدلاً من (اني) قاصداً نفسه وليس الاضباط الاخرين ثم تجد (قاسماً) في عين الوقت (اي قاسم رقم أثنان) يؤكد للسامعين بأن ((هذه الثورة ثورتكم ) وانه خادم الشعب وديمقراطي حريص على المبادئ الديمقراطية محاولاً ازاله القلق وعوامل الخيبة عند أولئك الذين توقعوا عودة الحياة الدستورية واحلل نظام ديمقراطي وينهض فيه قاسم رقم واحد وقد شعر بالضغط ليدرء عنه شبهة الديكتاتورية ليردد مرارا عديدة هذه الجملة فان الجيش والشعب قد اتحدا معا واصبحا واحدا وقاسم رقم واحد يكره الحزبية بينما قاسم رقم اثنين يرى من الخطورة بمكان ان يعرف الجمهور ذلك منه فتسمعه يقول: ان حزبه هو حزب جميع الشعب وانا من حزب الشعب العراقي، ورقم واحد في قاسم يكره الحياة الحزبية باعتقاد ان الشعب العراقي الذي يقصده لم ينضج بعد للحياة الديمقراطية وانه يجب ان يعتاض عنها الى حين بلوغ مرحلة النضج بالإيمان به وتتسلل عبارا في خطيه أحيانا بمنزلة رد او جواب على هتاف من مستمع وكلها يدور حول فوزه الكامل بولاء الشعب وان هذا الولاء يشجب ويغطي الولاء الحزبي الذي هو ولاء مصطنع وان اضطلاعه وحده بتصريف لشؤون البلاد ومقدراتها امر ضروري لان ثورته كانت ضد الدكتاتورية وقد خدم بها المعارضة الوطنية. وهي فريدة من نوعها بين الثورات وتختلف اختلافا بينا عن ثورة 23يوليوفي مصر التي كانت بالدرجة الأولى ضد الأحزاب وليست ضد النظام الملكي ولذلك نراها تميل الى نظام الحزب الواحد ومع ان قاسم رقم اثنان كان يلذ له دائما ان يبعث بالديمقراطي ويتسلح بوجه لها حين يشدد بانه فوق الميول والاتجاهات فقد بدأ العسكري رقم واحد وهو لا يملك أيديولوجية نظام حكم خاص بل كانت تجول في ذهنه عمليات إصلاحية مؤقتة، وأساليب معالجة ذات طابع روائي خلاب استمده بلا ريب من مطالعات في جرائد وادبيات أحزاب المعارضة في العهد الملكي لا تجمعها عقيدة سياسية او برنامج واضح. فمثلا وجد أحزاب المعارضة مجمعة على انه حالة الاقطاع في البلاد فاسرع يسن قانون الإصلاح الزراعي الذي حدد الملكية الزراعية . واغفل بطبيعة الحال معالجة الملكية العقارية وهي بعين الخطورة بالنسبة الى مجتمع المدينة السوفياتي ووجد الأحزاب مجمعة على إزالة اخر مظهر من ماهر النفوذ الإنكليزي باخلاء قاعدة الحبانية من جنودهم ففعل ووجد الأحزاب تجمع على وجوب انشاء علاقات اوثقمع العالم الاشتراكي و.ج.ع.م فبادر الى عقد اتفاق تعاون تجاري –اقتصادي- عسكري مع الاتحاد السوفياتي واتفاقات مماثلة مع بعض الدول الدائرة في فلكه ليفتح افقا جديدا في التعامل مع اليسار والفكر الاشتراكي يرفع الحضر عن ادبياتها الا ان قاسما رقم اثنان كان نشطا أيضا يتدخل ويتسلل عبر تلك القرارات ليفوض نفسه فابقى علاقاته الطيبة مع الغرب بالنأي الواضح عن سياسية الجمهورية العربية المتحدة الخارجية، وبالإقرار بحق النظيم السياسي النقابي باصداره قانون الجمعيات واجازة الأحزاب.
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012