حسن خضر
ينشر بالاتفاق مع صحيفة الأيام الفلسطينية
فلنبدأ بعبارة عابرة: قبل وفاته في العام 2009 بقليل علّق الكاتب التونسي صالح بشير على شاب تديّن، فجأة، بالقول: «أصابته لوثة تديّن مُفاجئة»، فانقض الكاتب المصري فهمي هويدي مُعلِّقاً على التعليق بما معناه أن الطبيعي بالنسبة لشاب عربي هو التديّن، وأن في مجرّد وصف الطبيعي باللوثة ما يدل على غلو وجنوح وعداء للدين. والواقع أنه استعمل ألفاظاً أكثر قسوة في الرد.
كان صالح بشير جزءاً من فلول المثقفين واليساريين العرب، الذين (إذا استعملنا تعبيراً عسكرياً) دخلوا مرحلة قتال تراجعي منذ أواسط السبعينيات، وفقدوا آخر ثكناتهم، شبه المستقلة، مع سقوط بيروت، بعد الغزو الإسرائيلي في العام 1982، ليجدوا أنفسهم بين مطرقة جيل «الصحوة» الوهابية السعودية، الإخوانية، الصاعدة على هامة تسونامي الثروة النفطية، و»دولة العلم والإيمان»، و»الجهاد» الأفغاني، من ناحية، وسندان البعثين العراقي والسوري وقد دخل كلاهما مرحلة الدكتاتورية السافرة، والسلالة الحاكمة، والجمهورية الوراثية، من ناحية ثانية. وعلى حواف المطرقة والسندان كانت مصر تخرج من دورها، ومن جِلدها، وكان العقيد الليبي مسكوناً بطموح الاستيلاء على دور الفتى الأوّل إلى حد ضاع معه الفرق بين الجد والهزل.
وبهذا المعنى، لم يكن خلاف هويدي مع بشير على الدلالة اللغوية والفقهية لكل ما يمكن أن يدخل في باب ومعنى لوثة مفاجئة، بل كان ترجمة لصراع جيل «الصحوة» الوهابية السعودية، الإخوانية، على المكان والمكانة في ظروف مالية، وسياسية، واجتماعية أكثر من مواتية، كانوا مدعومين من دول وفّرت لهم المنابر، والبنوك، والدفيئات الاجتماعية، والجامعات، والهراوات الغليظة المادية منها والمجازية، والتحق بهم، وسار في ركابهم، ما لا يحصى من عابري الطريق، وصيّادي الفرص، والقنّاصة، صغارهم وكبارهم.
كان الصراع، في حقيقته، على روح العالم العربي. ولا معنى لكل كلام عن صراع على الروح ما لم تكن في القلب منه دلالة الصراع على الهوية الاجتماعية والسياسية للأنظمة القائمة. لم تكن المعركة متكافئة، ولا كانت شريفة أو نظيفة، بما يُمكّن الفرضية والفرضية المضادة من الانتماء إلى الحقل الدلالي نفسه، بمعنى أن الرد على بشير كان يستدعي البقاء في الحقل نفسه، والتفكير في أشياء من نوع متى وكيف ولماذا يمكن أن يصبح التديّن المفاجئ لوثة، بدلاً من غواية وهواية الضرب تحت الحزام؟
في زمن صدّام، مشيتُ، ذات يوم، في بغداد بصحبة صديق، وشخص آخر من حزب البعث، علّق صديقي على وجود مطبّات في الشارع، فرد البعثي: هل تقصد انتقاد الحزب؟ قال صديقي: لم يخطر على بالي موضوع النظام، كل ما في الأمر أنني أتكلّم عن الشارع، ورد البعثي مجدداً: نحن ثورة ولسنا نظاماً كبقية الأنظمة.
وثمة، هنا، ما يشبه نصب الكمائن بدلاً من نزاهة مقارعة الحجة بحجة من جنسها. ولعل الفكرة أصبحت واضحة الآن. فالكلام عن الطبيعي، وغير الطبيعي، كما الكلام عن الحزب والثورة، لا ينطوي على أكثر من إيحاءات مثقلة بالعنف. عنف يقوم مقام المنطق، ويُلغي ضرورته.
والمهم، أن التديّن المفاجئ، بصرف النظر عن أسبابه، غالباً ما يكون معطوفاً على ميل إلى التطرّف (radicalization) وينطوي على احتمال اللوثة فعلاً. هذا ما عرفه السعوديون بعدما قتل أبناءٌ آباءهم وأمهاتهم وأقاربهم في السنوات الأخيرة لأنهم كانوا في نظرهم مجرّد كفّار. وهذا ما يعالجه، الآن، علماء السياسة، والاجتماع، في بلدان مختلفة بعد «داعش»، والعمليات الانتحارية، التي أقدم عليها أشخاص كانوا قبلها بقليل أصحاب سوابق، ومدمني مخدرات، وغرباء عن الدين ممارسة وثقافة.
والأهم، أيضاً، أن «داعش» كانت بذرة جنينية في رحم المكوّن الأيديولوجي، والمخيال السياسي، لمشروع الأسلمة. ومن محاسن المصادف أن هويدي نفسه كتب في وقت لاحق أنه يخشى على الإسلام نفسه مِنْ، وبعد، «داعش». وما لا يدخل في باب محاسن المصادفات، أن يكون المذكور قد كرّس «كتاباً» للدفاع عن الطالبان بوصفهم «جنود الله» حتى وإن عاب عليهم أن يكونوا في المعركة الخطأ، برغم أن الفرق بينهم وبين الدواعش في الدرجة لا في النوع.
ولكن لماذا كل هذا؟
للقول: إن الصراع على المكان والمكانة، ضد فلول تخوض قتالاً تراجعياً، كان في الواقع حرباً على فكرة الثقافة، ومن سوء حظ المثقفين واليساريين أن نسبة تمثيلهم في الحقل الثقافي كانت أعلى، وأثقل، بكثير من تمثيلهم السياسي، ووزنهم الاجتماعي.
ولعل في حقيقة كهذه ما يفسّر لماذا اتسمت الحرب على الثقافة بقدر غير مسبوق من العنف ليس اللفظي وحسب، بل والمادي، أيضاً، من ناحية، ومحاولة إنشاء حقل ثقافي بديل، من ناحية ثانية. والواقع أن شخصاً نال درجة الدكتوراه من جامعة سعودية مكافأة على أطروحة حاول فيها، على امتداد بضعة آلاف من الصفحات، نسف كل ميراث التنوير والحداثة في الحقل الثقافي العربي على مدار مائة عام بوصفه مؤامرة صليبية ـ صهيونية.
كان انقضاض هويدي (الذي يبدو ليبرالياً تماماً مقارنة بآخرين) على صالح مجرّد هامش صغير، ربما لا ولن يذكره أحد، ولكن في مكان ما منه ثمة ما يشبه الصندوق الأسود لحقبة كاملة من تاريخ الصراع على روح العالم العربي، وفي الصدى الخافت لعبارة عابرة تبدو للوهلة الأولى بريئة تماماً، نسمع أصداء حرب تدور رحاها في العالم العربي، وعليه، منذ أربعة عقود، ويتجلى فيها زحف تحالف السلطة والمال والسوق على جانب، وعلى جانب آخر القتال التراجعي العنيد لمنتجي قيم الخبز، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، في حقل الثقافة، في غياهب الليل، وحتى مطلع الفجر.
مجرّد هامش صغير..!
التعليقات مغلقة