لا نحتاج الى جهد كبير كي نتأكد من واقع الخدمات في هذا الوطن المنكوب بهرم الأولويات المقلوب. فلم يمر وقت طويل على هبوط لعنة “القادسيات” على رأس ذلك الكائن الخرافي وما رافقها من هموم واهتمامات، حتى بدأ العد التنازلي لكل ما يتعلق بالخدمات وحقوق الناس في العيش اللائق والكريم، هذا الواقع المزري لم يتغير بعد زوال النظام المباد، لأسباب تطرقنا اليها مراراً وتكراراً، إذ أن أمر هذه الملفات البطرانة كالخدمات يقبع في قعر قائمة أولويات حكومات ما بعد “التغيير”. أما لماذا بقي هذا الملف من دون ناصر أو معين، فلذلك أسباب عديدة، يقف على رأسها ذلك العمل المبرمج والطويل من قبل السلطات المتعاقبة لشطب وردع كل إمكانية أو استعداد للمطالبة بمثل تلك الخدمات والحقوق المنسية. أحد أبسط الحقوق يتعلق بالحصول على خدمة الإسعاف الفوري، وهي خدمة غالباً ما تشكل فاصلاً بين الحياة والموت، إذ يفقد الكثير من المرضى فرصة البقاء على قيد الحياة بسبب عدم قدرتهم في الحصول عليها أو تأخرها في الوصول أو غير ذلك من النواقص التي غالباً ما ترافق خدماتنا الطبية بشكل عام.
لقد شهدت خدمة الإسعاف الفوري تطوراً كبيراً في الكثير من البلدان، ومنها بلدان كانت حتى زمن قريب تفتقر لمثل هذه الخدمات أصلاً، حيث انضمت الى مراكزها وفرق عملها ما يعرف بالإسعاف الطائر، حيث تصل هذه الخدمة المتطورة الى الحالات والأماكن التي تعجز عن تحقيقها الوسائل التقليدية الأخرى، كذلك ضمّت فرق الإسعاف العديد من التقنيات المتطورة والخبرات والوسائل التي تتمكن خلالها من إيصال المريض بأفضل صورة ممكنة الى المستشفى ومراكز العلاج الطبي المختلفة. إن حاجة بلدنا الى هذه الخدمة أكبر بما لا يقاس وحاجة البلدان الاخرى، لما يمر به من وضع استثنائي، حيث لا يمر يوم من دون وقوع عمل أو أعمال إرهابية وإجرامية يتساقط من جرّائها العشرات وأحياناً المئات من القتلى والجرحى، وهي أوضاع تتطلب الاهتمام الاستثنائي بهذه الخدمة وتقديم كل ما تحتاجه للنهوض بمسؤولياتها بعيداً عن مبررات حالة التقشف وسياسات الترشيد التي لا يدرك معاييرها حتى الراسخون بعلم الموازنات.
إننا ندرك تماماً أن حل مثل هذه المشكلات مرتبط بوجود توجّه عام واضح وصارم للنهوض بواقع الخدمات المتردي، وهذا أمر ليس باليسير حالياً، لكن خطورة وحساسية مثل هذه الخدمة، تدفعها لأن تتصدر هرم الأولويات لما يمر به البلد من ظروف استثنائية، كما يمكن أن تكون حقلاً رائداً للتحولات المنشودة في مجال الخدمات وغيرها من الحقول. كل ما نحتاجه هو الشروع بتأميم هذه الخدمة وكف يد المحاصصة ومخلوقاتها عنها، وتكليف فريق عمل جاء أعضاؤه الى هذه المهنة (الخدمات الصحية) بدوافع لا علاقة لها بما هو رائج من شراهة وجشع واستئثار، فريق بمقدوره إعادة الثقة بهذه المهنة التي تدهورت سمعتها كثيرا لأسباب لم تعد خافية على أحد. يبقى السؤال أمام قوارض المشهد الراهن؛ هل تعدّون حصولنا على وداع لائق بعد كل هذا المشوار من الضيم والأوجاع الذي قطعناه برفقتكم كثيراً علينا؟ أم ستسمحون لنا بسماع صفارات الخدمة الأخيرة؟…
جمال جصاني
الخدمة الأخيرة
التعليقات مغلقة