الامبراطور يستقيل أيضاً

أعلنت طوكيو رسمياً عن أن امبراطور اليابان اكيهيتو؛ سيتنازل عن العرش في 31 نيسان العام 2019. هذا القرار الذي وضعهم أمام مشكلة، لعدم وجود نص قانوني يتعلق بتقاعد الامبراطور، الذي يفترض أن يبقى في منصبه مدى الحياة. هكذا تفرض شروط ومتطلبات الحياة الحديثة نفسها، على من كان يعدّ عند شعبه من سلالة الآلهة، ليلتحق بمن سبقوه في هذا المجال (ثقافة الاستقالة) بوعي وانسيابية تليق بما حققته اليابان الحالية من رقي ومواكبة لمتطلبات وحاجات عصرها، في الوقت الذي يستقيل فيه الامبراطور، تعيد مضاربنا المنحوسة الروح لمثل هذه البضائع النافقة (أنصاف الآلهة) لتشمل طيفا واسعا من شيوخ القبائل والطوائف والتكايا وشقاوات الأزقة والميادين، والمتجحفلين معهم بمثل هذه المهن التي انتهت صلاحيتها منذ زمن بعيد. لم تعد قدسية الامبراطور حاجزاً أمام انضمامه الى طابور المتقاعدين، وسيعمل مشرّعوا القوانين في اليابان على حل مثل هذه المتطلبات لحياتهم الحديثة. أما طفح أباطرة مشهدنا الراهن، فتجدهم حريصون على قضم المزيد من المكتسبات لذواتهم المتورمة، التي تحولت الى امبراطورية واسعة ومتشابكة من “الخطوط الحمر” و”تيجان الرأس” وغير ذلك من المبتكرات شديدة الانفجار.
لا أحد من فرسان خيباتنا المزمنة (قبل التغيير وبعده) فكر في الاستعانة بثقافة (الاستقالة) التي لا تعكس مشاعر الاحترام لشعبه وحسب بل احتراماً لنفسه قبل كل ذلك، كما جرى مع امبراطور اليابان اليوم ومع بابا الفاتيكان بالأمس. هذه الثقافة لا تتفق وما يعصف بجماجم القتلة والمشعوذين واللصوص، الذين ألقتهم الأقدار العابثة على سنام المفاصل الحيوية لما تبقى لدينا من مجتمعات ودول. لا بل حتى زمرة الطراطير التي تسللت لغير القليل من المواقع السياسية والمهنية المهمة؛ لا تسمح بتداول مثل هذه المفردات (الاستقالة) بين أتباعها وفي مناطق نفوذها. على الرغم من كل هذا الفشل الواسع وعلى شتى الجبهات والحقول المادية والقيمية، لم يتورط أي منهم في ارتكاب مثل هذه الحماقة (الاستقالة) التي تتنافر وثوابتنا الجليلة في اجتراح المآثر على طريق الفرهدة وقضم الغنائم وغير ذلك من سكراب المنظومة التي تحتقر أسلوب إنتاج الخيرات المادية والتراكم الطبيعي للثروة، الذي أكرم سلالات بني آدم بكل ما نشاهده في عالم اليوم من أمن واستقرار وازدهار ورقي.
ليس هناك أدنى شك من مسؤولية حيتان المشهد الراهن وديناصوراته المزمنة؛ عمّا حصدناه من هزائم وفشل قبل “التغيير” وبعده، لكنها برغم كل ذلك لم تغيّر شيئا من منهجها، في التهرب من المسؤولية وإلقاء تبعاتها على الآخرين والأقدار النحسة والشياطين من شتى الوظائف والأحجام. هذا السيناريو الممل والمميت يمكن متابعته مع ما جرى مؤخراً في تجربة الاستفتاء على استقلال كردستان، والتي أصر على إجراءها رئيس الإقليم المنتهية ولايته السيد مسعود البرزاني منفرداً، ملحقاً بالتالي ضرراً فادحاً بتجربتها الفتية وبوضع العراق بشكل عام، كل ذلك لم يكن كافياً لا لتقديم استقالته وحسب بل لم يجد نفسه مضطراً لتقديم اعتذار عما جرته تلك المغامرة غير المسؤولة، من خسائر بشرية ومعنوية جسيمة، وهو بذلك لم يشذ عما هو سائد وسط الزعامات المزمنة لـ “مكونات” ما قبل الدولة الحديثة والتي لا خط أحمر فيها ولا تاج سوى حرية الإنسان وحقوقه.
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة