بشكل شبه يومي تنقل لنا الأخبار وقائع عن انتهاكات يتعرض لها أشخاص لا ذنب لهم سوى أن حظهم العاثر مررهم من أمام إحدى السيطرات أو المفارز الأمنية التي يفهم أفرادها الأمن وارتداء الزي العسكري بوصفه امتيازاً لهم عن بقية المهن الأخرى، زي وموقع يتيح لهم التجاوز والاعتداء على الآخرين، وأحياناً يصل هذا السلوك المشين الى شخصيات عامة كرست مواهبها لخدمة أبناء شعبها، كما حصل مؤخراً مع سفير الطفولة الفنان هاشم سلمان وعائلته عند سيطرة (أم الطبول)، وغيرها الكثير من الحوادث البعيدة عن أبسط معايير التحضر والتهذيب المطلوبة من قبل المنتسبين لأجهزة وجدت من أجل حماية حياة وكرامة البشر، لا أن يتكرر في شوارعنا وأسواقنا وساحاتنا مشهد لمة عناصر أمنية حول شخص لا حول ولا قوة له، وهو يتلقى الكفخات واللكمات والجلاليق منهم أمام مرأى وسمع الجميع، من دون أن يظهر أي ممثل للقانون أو الرقابة وجيوش مكاتب المفتشين العامين، لردع مثل تلك السلوكيات المتخصصة بامتهان كرامة كل الناس، من وقع عليه الاعتداء ومن شاهد ذلك وبقى عاجزاً عن التدخل. عندما نكتب عن مثل هذه التصرفات والممارسات غير السوية، لا نتوقع حدوث ردود أفعال جدية وحازمة من قبل المسؤولين عن تلك الأجهزة والقيمون على شؤونها، لتقويمها عبر القرارات والسياسات الجذرية التي تتعقب علل وجذور مثل تلك السلوكيات المشينة، لأن ذلك من الأحلام الطوباوية في ظل الشروط والمناخات العامة السائدة في البلد، لكننا وكما يقول الشاعر (… ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل) سنظل نطرق من أجل بدايات ولو متواضعة على هذا الطريق.
بعد مرور أكثر من 14 عاماً على “التغيير” أصبحنا واثقين من عدم امتلاك القوم شيئاً من تلك المفردة سوى قشورها، فلا علاقة لهم بـ “التغيير” إلا ملف انتقال أسلاب النظام المباد للمحظوظين الجدد من الذين استطاب لهم التمدد والاستلقاء على تضاريس المنطقة الخضراء. لا يمكن انتظار أي خطوة جدية صوب “التغيير” من كتل وجماعات لم تتجرأ حتى هذه اللحظة على تغيير علم ورموز ونشيد النظام المباد، هذه الحقيقة التي تكشف لنا عن علل عجز وفشل كل المحاولات التي امتشقت لباس تغيير الحال والأحوال، والتي لا تلبث أن تخفت لتعود الأمور على ما هي عليه، إذ السيادة لشرائع وقيم ومؤسسات ما قبل الدولة الحديثة، والتي يعدها الكثير منهم مصدراً لا ينضب لديمومة هيمنته. لذلك نجدهم بين آونة وأخرى يلجأوون الى ملاذهم التقليدي وترسانتهم من العطابات والحلول الترقيعية والمسكنات والتي لا تقدم في أفضل الأحوال سوى تأجيل موعد المواجهة مع الكارثة المتعاظمة لوقت ليس ببعيد. إن ملف الأمن وبناء أجهزته المتعددة الوظائف والأشكال، هو جزء لا يتجزأ من مشروع لم يبدأ بعد، ألا وهو بناء الدولة الحديثة على أساس متين من المعايير والتشريعات والخبرة التي راكمتها الأمم الحرة، لا العقائد والهلوسات المنحدرة الينا من مغارات القرون الوسطى وما قبلها. كما في كتاباتنا السابقة حول هذه المواضيع لا نريد هدر وقتكم ووقتنا في طرح مقترحات وخطط لمواجهة مثل تلك العيوب البنيوية، والتي لن يجدي معها غير وجود الإرادة والمشيئة الفعلية لنصرة “التغيير” لا في المؤوسسات العسكرية والأمنية والتي ازدادت تورماً في الأعوام الأخيرة، بل في بقية مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والقيمية، تلك الحاجة التي لم تظهر تباشيرها بعد…
جمال جصاني
الأمن.. منظومة قيمية
التعليقات مغلقة