دولة السناين

بعد حماقة ضم “الفرع للأصل” وما رافقها من حرب شاملة شنها المجتمع الدولي بنحوٍ لا مثيل له منذ الحرب العالمية الثانية، وأدت الى سحق الجيش العراقي وبنية الدولة العراقية، لا سيما بعد الحصار المرير والطويل الذي أجهز على ما تبقى من مؤسسات حكومية وشروط حياة تليق بالبشر؛ تقهقر المجتمع العراقي بقوة الى قوقعاته البدائية (عشائر وقبائل وطوائف..) بمباركة سدنة النظام السابق، الذين استعانوا بنوع مما يطلق عليه بـ (شيوخ المانيفست) لإدارة دفة الأمن والعلاقات في تلك المناطق الخارجة غالباً عن سطوة النظام ونفوذه. حرب العام 2003 أزاحت ما تبقى من ذلك النظام، لكن مخلفات سياساته وحماقاته تسللت عميقاً الى أغوار العلاقات ومنظومة القيم المهيمنة على سكان هذا الوطن القديم، لم يمر وقت طويل على “التغيير” حتى شمّرت العشائر والطوائف والملل عن رغباتها ومواهبها وشغفها ببضائع العصر الجديد، هذه الرغبة لاقت استحساناً وتشجيعاً وتضامناً من لدن الطبقة السياسية التي تلقفت زمام أمور حقبة الفتح الديمقراطي المبين، لأسباب لا تخفى على من يعرف شيئاً عن طبيعة القوى والكتل المتنفذة، والتي تشترك مع هذه الهياكل البدائية بمشاريعها وعلاقتها الوثيقة مع كل ما يمت بصلة للماضي ورسائله الخالدة وسردياته المبجلة.
بالرغم من ادعاءات غالبية هذه الجماعات والكتل بانتسابها الى العناوين والمسميات الحديثة مثل (دولة القانون والمدنية والمشاريع الوطنية العابرة للهويات القاتلة..) إلا أن وتيرة التقهقر صوب المزيد من الانحطاط والتشرذم هي السمة الغالبة للمشهد الراهن، وهذا ما أكدته التقارير الدولية حول مستويات الفساد في الدول والمجتمعات، حيث يتصدر العراق قائمة الدول العشرة الأكثر فساداً في العالم. هذه المعطيات لا يمكن فصلها عن الهيمنة المتعاظمة لهذه المؤسسات البدائية والمتخلفة ونوع المعايير والقيم التي تعتمدها، والتي لا تطيق أي توجّه يسعى لبناء مؤسسات الدولة الحديثة وتشريعاتها الحداثوية في مجال الحقوق والحريات. لذلك سرعان ما كشفت تلك القوى عن هويتها الفعلية ومقاصدها المتناغمة ورغبة العشائر في استرداد عنفوانها وهيبتها الغابرة. إن طفح المؤتمرات التي عقدتها العشائر والقبائل برعاية رسمية من ممثلي الهرم الأعلى للسلطات الحاكمة، تعكس بوضوح متانة المشتركات التي تربط بينهما، وما التشريعات الأخيرة التي منحت سكراب المؤسسات البدائية سلطة القانون إلا دليل قاطع على طبيعة الخدمات المتبادلة بينهما.
معادلة الخراب هذه لن تترك مواقعها مع مثل هذه الاصطفافات والتجاذبات والهموم المغتربة عما حصل ويحصل من تحولات جذرية في عالم اليوم. ومع بقاء وتمدد هذه القوى المحافظة والتقليدية على هرم السلطات الثلاث في البلد، ستخفق كل محاولات الحد من سطوة ما يعرف بـ (سناين العشائر) الممزوجة بالنفوذ المتزايد لرجال الدين وأتباعهم في المشهد الغرائبي الراهن. لا أحد ينكر حجم الاستياء المتعاظم من هذا التورم والتطفل الواسع لهذه “السناين” المتخلفة والظالمة في تفصيلات حياة لا المناطق الصحراوية والقروية وحسب بل سحقها لكل معالم الحياة المدنية داخل العاصمة بغداد نفسها، وهذا ما يمكن مشاهدته بوضوح من خلال نوع الزعامات والملاكات المستلقية على سنام المسؤوليات العليا فيها. كذلك لجوء قيادات سياسية واجتماعية مرموقة لهذه “السناين” كي تنصفها من الظلم الذي لحق بها..؟! مثل هذه الحقائق وغيرها الكثير، تؤكد على حقيقة ابتعادنا المتزايد عن “دولة القانون” لصالح “دولة السناين” وفتوحاتها الظافرة..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة