أحد أكثر أعراض عصور الانحطاط تتجلى في اتساع ظاهرة (المثقف المعطوب) والذي تضيف خطاباته وكتاباته وآراءه عتمة إضافية للمشهد الملتبس أصلاً. مخلوقات تحاول عبثاً إخفاء نرجسياتها المتورمة، خلف وابل كثيف من قذائف الشعارات البراقة عن الوطن والشعب والحقوق والحريات، وغير ذلك من المفردات والمفاهيم الحداثوية التي يستعملونها من دون وجع من عقل أو ضمير. ليس هناك أدنى شك حول دور ومكانة المثقف الحقيقي، بوصفه يمثل رأس رمح التحولات والانبثاقات التي تنهض بالمجتمعات وترتقي بها الى حيث الذرى التي وصلت اليها الشعوب والأمم في العصر الحديث. مثقف تتجسد في شخصيته وسلوكه وإبداعاته، سبيكة منسجمة من القيم التي يجذب وهجها المتلقين وأصحاب المصلحة في التقدم والتغيير.
أشعر بالأسف والأسى عندما أشاهد واستمع الى غير القليل من نماذج هذا (المثقف المعطوب) وهو يلقي بمواعظه وأطروحاته الملتبسة الى المتلقين، حيث هناك الكثير ممن يتلقى ذلك الهراء، بوصفه خلاصة من الوصايا الثمينة، كونها قد أطلقت من شخصية أكاديمية أو شاعر له العديد من المجاميع الشعرية والأدبية والفكرية أو غير ذلك من الألقاب الطنانة. لقد ألحقت هذه الشريحة أضرارا بالغة، لا سيما وهم ضيوف شبه دائميين للمنابر الإعلامية الورقية والسمعبصرية. وهم برغم قدراتهم الكلامية المشهود لها والمستندة الى ترسانة واسعة من الديباجات والعبارات الجاهزة، لكن بوسع المتلقي التعرف عليهم من طريقة استعمالهم للشعارات الجميلة والعمومية والتي أشرنا لها، كما أن الكثير منهم، قد انتقل الى جبهة المعارضة، بعد إخفاقه في تلبية متطلبات نرجسيته وعشقه للأضواء وحب الظهور، لذلك وجد في لعب مثل تلك الأدوار المزيفة، تلبية لتلك التطلعات المشوهة.
هذه الشريحة التي أشرنا اليها، ليست عاجزة عن النهوض بمهمات المثقف وحسب، بل هي بممارساتها وعدوانيتها تسعى لقطع الطريق أمام كل نشاط ثقافي وفكري وقيمي جاد ومسؤول. وهي تتحمل مسؤولية الكثير من اللبس والغموض الذي يلف المشهد الحالي، حيث الهيمنة شبه المطلقة لقوى التخلف والشعوذة والظلام. ومثل هذه المتاهة ما كان لها ان تبقى وتتمدد بهذا الشكل الفظيع، لولا الخدمات المقدمة من شريحة (المثقف المعطوب) والتي عاثت في هذا الوطن القديم، فساداً تفوقت فيه على أسلافها في هذا المجال الحيوي (الثقافة). مصيبة هذا النوع من “المثقفين” أنهم يعارضون في الوقت والمكان غير المناسبين، وعندما تحتاجهم للمعارضة البعيدة عن الاستعراضات والمزاودات وتصفية الحسابات الضيقة، يرجمونك بكل ما ملكت ترسانتهم الكلامية من مبررات وذرائع للزوغان بعيداً عن تلك المنازلات، التي بمقدورها وحدها شق الطريق الى حيث التحديات الواقعية التي تواجه المجتمع والتجربة الفتية. إن خطرهم الأساس يكمن في الدور الذي يتقمصونه، عندما يقدمون أنفسهم بوصفهم أصحاب بدائل تنسجم وحاجات الوطن والناس، وهم ليسوا في الحقيقة سوى ما يمكن أن نطلق عليهم بـ (لصوص بدائل) حيث يقطعون الطريق أو يعيقون بذلك، سبيل المحاولات الجادة لشق الطريق نحو صناعة البدائل الواقعية. لذلك كله لا نستغرب كل هذا الاحتفاء الذي يحظون به، من قبل الشبكات والمصالح التي تدير الغالبية العظمى من وسائل الإعلام المحلية والإقليمية، حيث تتناغم وظيفتهم ومواهبهم وغاية وجود تلك المنابر الأخطبوطية والمصالح التي تقف خلفها.
جمال جصاني
إياكم والمثقف المعطوب
التعليقات مغلقة