يشكل الواقع السمة الأساسية للأفلام الوثائقية وهو والحقيقة هدفها الدائم، وإن كان ذلك ليس قصديا في بداياتها الأولى، تلك البداية المرتبطة بأول اكتشاف للسينما، فأفلام الاخوة ( لوميير)، لو أردنا تصنيفها الان فلا نجد ثمة صفة لها سوى صفة التوثيق ( خروج العمال من المصنع ، وصول القطار الى المحطة ) وكلا الحدثين في هذين الفلمين هما حدثان حقيقيان وواقعيان…
وبعد التطور الكبير الذي طرأ على النتاج الفني السينمائي وكذلك ما نتج عنه من البروز والنجاح والاقبال الكبير الذي لقيه الفيلم الروائي لدى جمهور السينما، كان لابد لمخرجي الافلام الوثائقية ان يهتموا بتطوير صناعة وانتاج افلامهم بما يتلاءم والتطور الحاصل في الصناعة السينمائية عموما ، لكن الفرق بين ان تختار لفيلمك مادة واقعية وحقيقية وان تحرص على عدم التدخل في حقيقة هذه المادة ، وبين ان تختار مادة من الواقع وان تتلاعب وتغير بها ، فضلا عن تخيل اسباب ومسببات ونتائج ليست حقيقية وليس لها علاقة بالواقع وتصنع منها فيلما ، هو الفرق الذي أنشأ بين النوعين الوثائقي والروائي أسلوبهما واتجاهاتهما المختلفة ، ولكون الحقيقة هي الهدف، والواقع هو المادة الخام للفيلم الوثائقي ولكل منهما، اي الحقيقة والواقع فلسفته الخاصة به ،كان لابد لصانعي الافلام الوثائقية ان يتوافر على معرفة فلسفة كل منهما ولو بمعناه البسيط .
فما هو مفهوم الحقيقة والواقع وما علاقة احدهما بالأخر، وكيف يتعامل الفيلم الوثائقي مع فلسفتهما …
ان مفهوم الحقيقة في دلالاته الشائعة يستند فيما يستند اليه على معيار الواقعية، بوصف الحقيقي هو الوجود القابل للإدراك الحسي والمباشر والقابل للتحقيق الواقعي ، لذا فأن الواقع يصبح مرجع الحقيقة ، فكل ما هو واقعي هو حقيقي، وهذه دلالة اجتماعية أسهمت الى حد ما في حصر المفهوم في زاوية المطابقة، وبالتالي ابعاد وإلقاء كل ما هو مخالف للحقيقة ، كالكذب والوهم والخيال، على الرغم من واقعية كل منهما.
اذن فالحقيقة هي الصدق واليقين ، والا حقيقة هي الوهم والخطأ والخيال، وفي اللغة فان الحقيقة هي ما وضع اللفظ له والا حقيقة هي المجاز ..
ويحدد الفيلسوف “لالاند” في معجمه الفلسفي الحقيقة باعتبارها خاصية ما هو حق وهي القضية الصادقة وما تمت البرهنة عليه وهي شهادة الشاهد وهو ما يعني اعتبار الحقيقة هي الواقع الذي لا يمكن الشك فيه.
وقد وصف الاخوان (لومير) السينما في براءة اختراعهما عام 1895 على اساس من خاصية الحركة “بانها الة لإعادة انتاج الحياة الحقيقية” ، لأن تسجيل الحركة وتمثيلها هو قدرة السينما على رسم العالم المرئي الذي نعيد انتاجه ، ولطالما كان الواقع بما يحتويه من مكونات مثار اهتمام الانسان.
وقد بدأ الاهتمام منذ ان حاكى الانسان هذا الواقع من خلال رسوماته على جدران الكهوف ومن ثم نشأة الفنون بين جدران المعابد وبالتالي كان امتدادا لاهتمام الفنان بهذا الواقع ، فكان تأثير الواقع على الانسان مستمرا ودائما عبر كل العصور من خلال التأثر والتأثير الذي اتاح معرفة الواقع بوساطة الانسان ومعرفة الانسان من الواقع ، إذا ما اعتبرنا العمل الفني هو الحالة المتقدمة للتمثل والمحاكاة بما نستطيع ان نعده النضوج الذي مكن الانسان من تجسيد فلسفته تجاه الواقع ، وعلى الرغم مما للعمل الفني من خصوصية لكنه قادر على ان يتبنى ويحاكي الواقع لتجسيده والتدليل على معالمه وصياغاته بعد ان يكون الواقع هو المادة الخام للعمل الفني وان “أول اهداف الفن ان يمثل الواقع”.
ان الفن يحاكي الواقع ولكن لا يمكن له تحقيق واقعية صرفة بالعمل الفني ، فالواقعية في الفن امر شاق وتطغي عليه النسبية وعلى الرغم من ان ” الفن ينبغي ان يقدم تمثيلا دقيقا للعالم الواقعي”. ولكن هل هذا يعني ان الفن يجب ان يكون من الواقعية الى حد نسخ الواقع كانعكاس الصورة في المرأة ، ان مثل هذا النسخ للواقع يفقد الفن قيمته الحقيقية وحتى ان وجدت فأنها تبقى ذات قيمة نسبية وليست مطلقة . لان مثل هذا النقل يفقد العمل الفني متعة المتلقي التي لم تكن ابدا متعلقة بدرجة التشابه بين المصور والصورة .
فالسينما هي اولا فن الواقع أما بأمانة اسلوب واقعي نسبيا(وثائقي) ، أو فن الواقع الواقعي بأسلوب تعبيري يحلل الواقع ويجعله قريبا من السحر والخيال (روائي) ، وعلى الرغم من ذلك فان الصراع الدائم بين تصور الواقع وحقيقة تسجيله في الصورة كان وسيبقى المصدر الاساس للأبداع في فن السينما .
أن مجرد اختيار الموضوع المصور عبر الكاميرا، حتى قبل المونتاج والبناء، يعني مسألة تعبير وهذ يعني مسألة تأويل ، فتصوير الموضوع من مسافة وزاوية معينة والعناية بوضوح الصورة وترتيب علاقات الظل والضوء كذلك تحديد مدة كل لقطة واعتماد نوع مادة الفلم الخام ، كعوامل في اعادة إنتاج التقنية، هي عوامل ذات طابع تأويلي معبر ، وكل هذا لا يمكن ان يعطي صورة “أمينة ” للواقع الحقيقي. ان مجرد النظر الى أي جزء من العالم ، عبر الكاميرا وتسجيله يؤكد، بغض النظر عن الاعتراف أو عدمه، هو دائما مقطع من رؤية العالم ، فالاختيار هو دائما تقويم ، وفي الواقع فان ذاتية المؤلف موجودة في كل قدم من الفيلم ، عن طريق اختيار الموضوع وتحديد موقع الكاميرا ونوع العدسة ومن ثم في عملية المونتاج والمكساج ، مكونات الصورة والصوت ، لذلك فحتى الصورة التي تبدو للمتفرج، كعلامات أيقونية حاضرة مباشرة من الواقع فإن المؤلف موجود حتى لو أختفى في لغز الصورة.
ان السينما الوثائقية من حيث المبدأ ، هي وثيقة عن الحياة والواقع تتجسد مادتها عن طريق العكس ، أو التصوير المباشر لهما ، وأحد التعريفات الخاصة بالسينما الوثائقية التي تلتصق التصاقا مباشرا بالحياة المادية وبالواقع ، انها اعادة تنظيم وتركيب ومن ثم تحليل الواقع اعتمادا على وقائع حياتية وعلى شخصيات حقيقية ومن حيث المبدأ، يلاحظ صانع العمل أمامه مجموعة من الأحداث والبشر المتفاعلين فيما بينهم بسبب سكنهم في منطقة معينة وربما يكون لها خصوصيتها او ما يميزها عن غيرها من حيث طريقة العيش أو جغرافية المكان أو الملبس والعادات والديانات المشتركة ، وعليه ان يختار من بين كل ذلك ما يسمح له بالتعبير عن الفكرة التي يريد إيصالها، وبعد ذلك عليه ان يختار أسلوب العمل ، لأن اختيار المواد والموضوع ومن ثم اختيار اسلوب العمل هما العاملان اللذان يحددان خاصية كل مخرج ويفسران وجهة نظره في تعامله مع الواقع .
هناك اتجاهان حكما تطور وتعامل السينما الوثائقية مع الواقع ،وقد أنعكس تأثيرهما حتى على تطور السينما الروائية “الاتجاه الاول يرى ان السينما التسجيلية مرآة تعكس الواقع من دون تدخل من المخرج أو الممثل ،وعبر عن هذا الاتجاه منظرون كبار مثل الالماني زيغفريد كراكاور والفرنسي أندريه بازان ،انطلاقا من تحليليهما لمجموعة من الافلام الوثائقية في بداية القرن العشرين مثل افلام الامريكي روبرت فلاهرتي نانوك رجل الشمال ورجل من آران، وعدّا ان ما يميز هذين الفلمين هو تصويرهما للواقع المباشر من خلال اســلــوب الملاحظة الطويلة ، وليس المونتاج. لكن هذا المفهوم الذي يعطي للواقع الاولوية ، كان يتجاهل حقيقية ان غياب شخصية المؤلف ، وغياب وجهة نظر المخرج خاصة تفقد الفيلم قيمته الفنية ، لأنه من غير الممكن النظر الى الواقع نظرة مجردة عن كل ما يحيط به ، نظرة تستوعب العلاقات الموضوعية المتبادلة فيه .فعندما يجد المخرج /المؤلف امامه واقعا امينا معينا يريد التعبير عنه فانه يحدد الموضوع ويختار الحقائق والوقائع المتعلقة به ,وهذا الاختيار لا يمكن ان يكون سلبيا ومعزولا عن ثقافة ووعيه وحساسيته.
والاتجاه الثاني ينظر الى الواقع لا بوصفه هدفاً، بل كطريق للوصول الى الهدف وهو التعبير الفني عن الواقع من قبل الفنان ولكن من خلال مادة الواقع نفسه التي تستخدم كوسيلة وليس كغاية بحد ذاتها . وهذا الاتجاه هو ما عبرت عنه السينما من خلال اعتمادها بشكل اساس على اعادة تنظيم الواقع بهدف بناء الموضوع وتوضيح الفكرة ، بوساطة المونتاج حيث يتراجع الواقع المباشر الى المرتبة الثانية ويحتل المونتاج ووجهة نظر المخرج المرتبة الأولى، وأبرز منظري هذا الاتجاه هو المخرج (دزيغا فيرتوف ) إذن كل من الاتجاهين يتعامل مع فلسفة الحقيقة والواقع بالطريقة التي يراها مناسبة وبما تحدد توجهات صانع الفيلم وما يريد ان يقوله وفقا للاتجاه الذي يراه مناسبا له ويؤمن فيه ، وبالتالي فإن كل ما يقوم به صانع الفيلم الوثائقي في تعامله مع الواقع هو تصرف يبدأ من مرحلة اساسية هي الانتقاء اذ يستحيل وصف الواقع دون اللجوء الى الانتقاء ، لان الانتقاء يتيح لصانع الفيلم ان يختار من الواقع ما يروق له ووضعه في حيز عمله حتى يتمكن من خلق واقعيته التي تولد من خلال ذلك الواقع وليس نقل الواقع نفسه ، وربما يطلق البعض على هذه العملية بالواقعية التي تعمل على تجسيد الواقع في حدود الفن فـ”الفن انما هو تجسيم لواقع أكثر رقيا ، ويطلق على هذا التجسيد تمثل الواقع ويتم من خلال الملاحظة الدقيقة والمتأملة للواقع المشبعة بالتحليل وليس بطريقة عكس الواقع بصورة مباشرة، كذلك فيجب ان يكون الاختيار وبالتالي التجسيد ذا قدرة على رفد ما ينتقيه بفعل القوة والحيوية ، وكذلك يجب ان تكون هناك عملية استيعاب لما تم اختياره أو اقتطاعه من الواقع ضمن حدود العمل الفني بما يصلح ان يمثل الحياة التي تم اختيار بعض من ذلك الواقع منها ، وهو واقع مرتبط بالفنان بتصور وانطباعات عن الواقع وما يمتلكه من تصور وانطباع ترسخت من جراء ذلك الواقع، ان ما نسميه واقعا ليس الا الصورة الذهنية التي لدينا عن الحياة ..ان العالم بالطبع ما هو الا فكرتنا عنه أو تصورنا له ، لذلك فالواقع عند صانع العمل هو انطباع وليس نقلاً حرفياً يوظف من دون تصرف . ويمكن أن تكون النظرة الى الواقع متباينة بين شخص وأخر تبعا للمكان الذي يعيش فيه هذا الشخص وما يؤمن به من معتقدات وأفكار ، وهكذا تكون لكل شخص نظرته الخاصة الى هذا الواقع وحقيقته