احتفل العالم قبل أيام بعيد الأب، ذلك الرجل الذي لا يغفو قلبه إلّا بعد أن تغفو جميع القلوب..
كما يقول أحد الفلاسفة !
هُناك من يجد أن الأم تمثل الحنان، فيما يمثل الأب الأمان، وإذا كان الأمر كذلك فما أعظم ذلك لنا وللآخرين.
تعود بي الذاكرة الى ذلك الزمن الذي كنا فيه أطفالاً صغاراً لا نعرف من الحياة شيئاً سوى اللعب والمرح وشراء الحلويات واللُّعب البسيطة، وعندما كنت أطلب أنا أو إخوتي مصروفنا اليومي من أمي -رحمها الله- كانت تقول لنا جملتها اليومية المعتادة: روح أخذ الفلوس من “جيب أبوك” !
، وهذا الأمر يتكرر كلما كانت أمي ترسلنا الى الدكان القريب أو السوق لشراء حاجة أو سلعة ما.. تحتاجها للمطبخ أو للغسيل.. فتقول: روح أخذ الفلوس من “جيب أبوك” !
وهكذا الحال عندما كان يأتينا ضيوف على غير موعد كالعادة، أو عندما يقف متسول أو فقير عند الباب يَنشد مالاً أو عطايا قليلة تدفع بلايا كثيرة.. تقول أمي: روح أخذ فلوس من “جيب أبوك” وانطيه ..!
وهنا المقصود في كل مرة ليس سيارة “Jeep” المعروفة عالمياً، وإنما المقصود بالـ “جيب” هو ذلك الشَقّ المفتوح في ثوب ومتّصل بكيس صغير داخل الثوب، يُستخدم لحمل البطاقة الشخصية والأوراق المالية والقطع المعدنية على حد سواء!
ما هذا “البنك” الذي لا يزيد حجمه على بضع سنتيمترات مُربعة ،أو مُستطيلة .. يَفيض بكل هذه الأموال والخيرات والسخاء ، نَغرف منه ما نشاء من دراهم ودنانير مَعدودات على مدار
الساعة ..!
ماهذا البنك أو المصرف الذي يَمنحُك الأموال من دون مطالبتك بورقة أو كفالة ضامنة أو وكالة من كاتب العدل الصباحي أو المسائي أو ورقة تعهد باستردادها أو إرجاعها عند الطلب..!
ماهذا البنك الذي يدعى “جيب أبوك” الذي لا يشبهه حتى حاتم الطائي في كرمه .. ولا مزاد العملة الصعبة للبنك المركزي أو غيره من المصارف !
“جيب أبوك” هذه العبارة التي لصقت بذاكرتنا من دون أن نسأل من أين مصدر أموال هذا البنك الصغير الذي كان يضم كل ما يملكه أبي من ثروة، وهو الذي لم يعرف ادّخار قليل أو كثير في بنك أو مصرف أو قاصة حديدية، بداعي أن محتواه ينفد قبل نهاية الشهر!
لم نسأل يوماً أين كان يذهب “أبونا” صباح كل يوم ولا يعود إلا في الساعة الثالثة أو الرابعة عصراً متعباً منهوك القوى، وقد تغيّر لون وجه وزاد سمرةً بفعل العمل والوقوف طويلاً تحت لهيب الشمس الحارقة، التي كانت ترسم لوحة سريالية من إفرازات التعرق.. وخارطة متشابكة معقدة من الرسوم على قميصه وملابس العمل، تجتهد أمي على أزالتها عن طريق الغسل بمسحوق التايد ..!
نركض نحوه وهو عائد من عمله، نردد عبارتنا المعتادة كل يوم “الله يساعدك يابه” يبتسم برغم كل ما يحمله من تعب وهموم ويجيب “هله باباتي” !
هكذ أصبحت حياته الجديدة بعد أن تغيرت ودارت الأيام دورتها وجاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، وانقلب حاله وحالنا من عيش رغيد وترف وبيت ومضيف وسيارة الـ “لاند روفر” الحديثة في ذلك الزمن وسائقه الخاص وأحدث البدلات والعطور الرجالية.. الى حال أسوأ!
لم يتردد هذا الرجل في العمل من أجلنا في مشاريع وأعمال شاقة لم يعتد عليها سابقاً، كانت تأخذ من قوته ونضارته وصحته الشيء الكثير!
لم يشكُ يوماً، برغم مصاعب الحياة وهمومها وصعوباتها، كان يواجه كل ذلك بصبر وصمت وحلم وحكمة وأبتسامة ، كان مؤشر “السكائر” التي يحرق بها رئتيه طواعية.. يتصاعد يوماً بعد آخر، ينفث دخان سيكارته، وكأنه يرمي بها ويطرد أطناناً من الهموم وتعب الأيام والسنين..!
لم يحتمل مشهد مصير أبنائه وهم يساقون جميعاً الى حرب مجنونة طاحنة مجهولة المصير، فنال منه المرض اللعين، ليغمض إغماضته الأخيرة .. مع أول صاروخ أُطلق على مدينتنا الجميلة !
• ضوء
اشتقت الى أب لن يرجع أبداً.. ولن يأتي مثله أحد..!
عاصم جهاد