زهير الجبوري
حين تصبح القصيدة مشروعا خطابيا هادفا، فإن جلّ ما تحتويه ينطوي على الحماسة وعلى الاندفاع الكبير نحو تحقيق الأهداف المطلوبة، والشاعر عدنان الفضلي واحد من ابرز الشعراء الذين قدموا تجاربهم الشعرية في نقد الواقع عبر (شعرية الرفض والاحتجاج)، فقد عرفته هكذا عندما كان يقود مع اصحابه تظاهرات تندد بحقوق الأنسان العراقي، وما ثورة تشرين الاّ علامة فارقة له وللعراقيين جميعا في المواقف الرافضة هذه، وتجربته في المجموعة الشعرية (مرايا عمر سعدون/ قصائد تشرين/ 2022) خير دليل في الإمساك بتاريخيتها عبر شهداء هذه الثورة، وقد بان ذلك من خلال عتبة الاهداء (الى: الفتية الذين آمنوا بوطنهم فزادهم العراق قوة وبسالة)، والمثير للانتباه أن (الفضلي) في قصائده التشرينية رصد بشكل دقيق الأجواء التي عاشها شهداء الثورة، لتصبح شواهد معاشة، بمعنى انه كان برفقتهم، وكان مشروعاً لذيذاً للاستشهاد، فكانت القصائد مدونات شعرية للشخوص والأماكن والأجواء الساخنة التي سيخلدها التاريخ، لذا كانت النصوص معبرة عن:
1ـ مشهدية الشخوص: تحيلنا الى حقيقة المواقف التي شهدت صرخات المنتفضين وهتافاتهم ، فما كان حضورهم ـ أي شخوص تشرين من شهداء وبعض المشاركين ـ سوى تحميل مواقفهم إزاء المشهدية التاريخية الكبيرة لتشرين وتأطيرها داخل بنية القصيدة، فالشعر غالبا ما يخلد المواقف التاريخية، لذا كان لـ(عمر سعدون ، وصفاء السراي ، وثائر الطيب ، وعلي العصمي ، وقدوس ، وحمزة كامل ن وجمانة) من الشهداء ، و(عارف الساعدي ويوسف الزبيدي) اللذان شاركا في الثورة التشرينية وهما على قيد الانتفاضة والحياة، المرآيا العاكسة ، لذا أحسب ان ما قام به الشاعر (الفضلي) ينطوي على قصدية الإمساك بفضاءات الأصوات التي صرخت (نريد وطنا)، والتي تمركزت عبر مواقفهم لتصبح رموزا ، ثمَّ تتحول الى نصوص، وهذه النصوص هي من وظيفة الشاعر ومشروعه التدويني، فالمجاز الشعري وبلاغة الجملة اسطرت الشخوص/ الشهداء، نقرأ في قصيدة (فتى الدخان)، الى الشهيد (صفاء السراي):
ذاكرة الفتى الراكض في تلك الأمتار
محصورة بين حدائق وحرائق
لا صراخ ينقذه
ولا الاشارة يفهمها الأوباش
لذلك استدار عائدا الى الجسر
وجوفه مليءٌ بالبارود والدخان (ص7).
إنَّ مشهدية المقطع الشعري هنا، ليس لتأطير حالة الحدث حسب، إنما لإعطاء (الفتى الراكض الذي استدار وجوفه عائد الى الجسر وهو مليء بالبارود والدخان) البعد الرمزي لهوية كبيرة هوية وطن، هوية موقف، هوية رغبة ، كلها استفاضت عبر تعميق دلالي لانتفاضة عشنا تفاصيلها، كذلك نقرأ في القصائد (شهداء ولكن ..، فرانكشتاين في الديوانية ..، الفتى الذي أوقف هجرة البساتين)، ما انطوت عليه جدلية الحدث ذاته، ففي قصيدة (شهداء ولكن) المقطعية ، حملت ذات الأسماء التي اشرنا اليها، غير أن (لكن) اعطت البعد الشعري التوظيفي لكل شخص/ شهيد، فـ(حين سقط عموري ../ انحنى ظهرُ الحبوبي) و (ثائر الطيب: كان يتمشى مثل أسمه /مبتسما يعيش .. / مبتسماً يلوّح بالثورة/ مبتسماً حدّ الشهادة)(ص25ـ 26).
2ـ مشهدية الأماكن : وهي المناظرة لأدوار الشخصيات، والشاهدة على الأحداث، والمدوّنة لكل ما حصل في الثورة التشرينية، والشاعر هنا أيقن بأن الأماكن علامات تؤثث الأشياء وتوغل في أداءات الأحداث، ومع ان المكان يرتبط ارتباطا جدلياً مع الزمان ، وهو في ذات الوقت (مرتبط بالأنتماء والألفة) و(يتحول من مجرد موقع جغرافي الى انتماء وجداني وعاطفي) بحسب (باشلار)، وهذا ما أمسكه (الفضلي) في قصائده، فلم تكن المسافات بين مدن البلد، وبين العاصمة سوى عنوان واحد، فتحولت الأماكن (ساحة التحرير..، المطعم التركي..، الشوارع) في بغداد، والأماكن الأخرى في جغرافية الوطن، الى كتلة واحدة وشعار واحد وهدف واحد، حتى الجدران واسقاطات المنتفضين عليها اصبحت شعارات لمدونات تشرينية، فالقصائد (مطعم بنات تشرين..، المدينة والزجاج الذي يمشي حافيا..، زهور ساحة الوثبة..، لوحات شكران)، استحضرت سرديات الثورة ، لا بهوس اصحابها ، إنما بحماس الحدث، فكانت جلّها نصوص ملتقطة من قبل الشاعر، ولعل هذه اللّغة التدوينية ، لغة شاعر منتفض، مثلما هناك سارد شاهد، كتجربة القاص الكبير محمد خضير في (المحجر) والتي تناولت ذات الموضوعة باشتغالات سردية خاصة، لذا نقرأ في قصيدة (مطعم بنات تشرين):
خذ ما شئت أنت .. وأترك لنا وطناً نستسيغ طعمه
فنحن المطعم الأخير الذي .. يريد لبنات تشرين ..
أن يشرفن عليه .. حتى لا نجوع من جديد ..(ص21).
لعبة الكتابة الشعرية للأماكن، تتضح أكثر بروزا عن النزعة التدوينية (للحيزـ المكان)، وهنا تكمن حقيقة الاستعادة لما يدور من أحداث دائر إطار المكان، فـ(المطعم الأخير..الذي يشرفن عليه بنات تشرين) دلالة بوحية مستعارة ، كذلك نقرأ في قصيدة (لوحة شكران)، حيث تتضح (ساحة الحبوبي) بوصفها المساحة المكانية المنتجة للحدث التشريني للفنانة (شكران):
في تشرين .. صارت في حيرة من وعيها
تقارن ما بين رهبة اللّون .. وما تبثه فضائيات الرعب. (ص48).
حفريات الأماكن، واللغة الشعرية/ التصويرية لما يدور من أحداث، في حقيقتها تنطوي على وظيفة الكشف، مهما كانت طريقة الشاعر في توظيف لغته، ولم تكن طريقة الشاعر عدنان الفضلي في (مرآياه) سوى الأمساك بالمرحلة التاريخية لثورة تشرين الخالدة، ومع ما جاءت به قصائد المجموعة من موضوعات أشرنا اليها الاّ انها تتمتع ايضا باشتغالات واضحة وبارزة للعبة التناص والأستعارات التاريخية السومرية، لأنه ببساطة ينطلق من عمق جذوره الجنوبية وله اشتغالات في ذلك.