يكشف التعامل القهري في حقّ بعض المهاجرين العراقيين
أشرف الحساني
في الفيلم العراقي «أوروبا» (2021) الذي رُشّح لـ»أوسكار» أفضل فيلمٍ سينمائيّ أجنبي، يُقدّم المُخرج حيدر رشيد (1985) خلطة سينمائية بسيطةٍ وواقعيّة، تجعل موضوع الهجرة واللجوء أفقًا تخييليًا. وإنْ كانت بعض أنماط صُوَره تبتعد كلّ البُعد عن التخييل السينمائي المُستند على الابتكار وخلق مسافةٍ جماليّة مع ظاهرة الهجرة، بما يجعل الفيلم مُتنفّسًا فنيًّا، ينتقد ببراعةٍ مكر السُلطة وعنفها وقهرها للمهاجرين على الحدود ما بين أوروبا وتركيا. ما يُفسّر لجوء حيدر رشيد إلى صورةٍ سينمائية واقعيّة تكشف مآزق وأعطاب وتصدّعات القوى الأجنبية في تعاملها القهري مع قضية الهجرة. رغم أنّ سيناريو الفيلم مشغولٌ بالحركة أكثر من الحوار. ذلك أنّه لا يكشف لنا عن خلفيات البطل (كمال) وأسباب هجرته، ولا يُحاول ضمنيًا خلق سببٍ دراميّ يُوحّد الصورة مع النصّ ويجعلهما في آنٍ واحدٍ ينتقدان السُلطة وميثولوجياتها. لذلك يشعر المُشاهد منذ الدقائق الأولى من الفيلم بأهميّة الحدث سياسيًا، وقُدرته على التأثير في نفوس ومَشاغل الناس، لكنّه سرعان ما يندهش، حين يكتشف بأنّ السيناريو يبدو في تشكّلاته الفنّية مُغيّبًا ومُفتقرًا للحكاية، وإلى أيّ أفقٍ بصريّ يجعل من عنصر التخييل ركيزته الأساس. إنّ التخييل في الفيلم، ليس مُعطى ذاتيًا يُدرك من خلال الجسد ويمنحه لنا النصّ كشعورٍ مُسبقٍ، بقدر ما تُقدّمه لنا الصورة على شكل مُتوالياتٍ حركية بصريّةٍ، بحكم أنّ النصّ يظلّ مُغيّبًا، حيث تبدو صُوَره السينمائية وكأنّها سابقة عن مفهوم التأليف الذي تُوجّهه الصورة وتصوغ مُتخيّله الجمالي في ذاكرة المُشاهد. لذلك، فإنّ ارتباك السيناريو، واكتفاءه بالصمت والحركة، وتعابير الممثّل خلال مُدّة الفيلم، يجعل «أوروبا» يميل إلى الصورة الوثائقية أكثر مما يميل إلى الصورة السينمائية، مع أنّ مفهوم الصمت مُبرّر جماليًا، ويجعل الذات تنسج لذاتها أفقًا تخييليًا قد لا يرتبط بالضرورة مع الفيلم ككلّ. لأنّ الصمت يمنح لـ «أوروبا» عُمقًا رمزيًا، ودلالاتٍ أنطولوجية قويّة تتعلّق بأسئلة تتمحور حول الهوية والهجرة واللجوء والانتماء في علاقتهما بالقوى السياسيّة الخارجية المُتحكّمة في حيوات الناس وبؤسهم وشقائهم وراء البحر. كل هذا من خلال قصّة شابٍ عشريني يُقرّر بعزيمةٍ لا تُقهر الهجرة صوب أوروبا، والدخول إليها مشيًا على الأقدام، عبر اختراق الحدود الواقعة جغرافيًا بين تركيا وبلغاريا.
ففي هذه المنطقة السياسيّة البعيدة، يجد المخرج حيدر رشيد فضاءً واقعيًا لبؤرة فيلمه السينمائي الخامس، حيث يجعل من جسد الشاب مدخلًا للتعبير الفنّي، وقدرة هائلة على توجيه نقدٍ مُبطّن للسُلطات البلغارية، على خلفية الجرائم التي ترتكبها في حقّ بعض المهاجرين العراقيين، الذين يحلمون بالدخول إلى أوروبا، بحثًا عن مُستقبلٍ أفضل. غير أنّ الخاصية الجماليّة المتفرّدة التي تُميّز علاقة المخرج بجماليّات الفضاء السينمائي أنّه لم يعمل على بناء إكسسوارات مصطنعةٍ، أو علاماتٍ أيقونية، حتّى يعطي لـ»أوروبا» سحرًا فانتاستيكيًا، بل جعل الفضاء مجرّد غابة طبيعية تتهاوى فيها الأجساد وتسقط على يد السُلطة، لكنّه ظلّ طيلة مدّة الفيلم، كمساحة جماليّة كافية للمخرج حتّى يوصل رسالته الموجعة للناس. بعد أنْ أصبح الفضاء السينمائي لدى حيدر رشيد بمثابة مُختبرٍ فكري لميلاد لغة بصريّة تمزج في طيّاتها بين الحركة والتأمّل، مع أنّ المخرج يتعامل مع فضاء الطبيعة، باعتباره مكانًا لا يُقدّم مُنعرجاتٍ سرديّة، أو حلولًا جماليّة جاهزة، وإنّما ينتج صُوَرًا فنّية آنية. هذا الأمر يجعل المُشاهد يُفكّر ويتأمّل ويتساءل في قرارة نفسه عن حيثيات المَشاهد اللاحقة، لأنّ لا شيء يأتي تلقائيًا أو مُقدّما على شكل تحصيلٍ حاصل، لأنّ الصورة تبقى مشغولة بتحوّلات الأحداث الدرامية ومفتوحة دومًا على الجُرح والدهشة والألم والخوف. وهذا النّمط في الصورة السينمائية لا نكاد نعثر عليه، إلًا داخل أفلامٍ تخلق جدلًا فكريًا باستمرار، حيث الصورة مُركّبة والزمن فيها بطيء، وكلّ حركةٍ واحدةٍ من الكاميرا تجعلها تُبلور عددًا من الحقائق البصريّة، إذْ يكون المخرج هنا مشغولًا بالتفكير من خلال الصورة في هواجس وقضايا وإشكالات الواقع، عوض أنْ يُطوّع آلة الكاميرا بشكلٍ ميكانيكي، بغية تصوير أو نقل أو حتّى ترجمة بعضٍ من ملامح هذا الواقع. فمهما ادّعت السينما نقل الواقع ونتوءاته، فإنّها تظلّ غير قادرة على تملّكه بشكل أنطولوجيّ، وبالتالي، فهي تتعامل معه بوصفه مجرّد نُسخٍ أو صُوَرٍ مُصغّرة عن براديغم الحقيقة. أمّا على مُستوى دلالاته الجماليّة، فنجد أنّ الواقع نفسه عبارة عن أحداثٍ مُتشابكة يصعب القبض عليها داخل صورةٍ سينمائية واحدةٍ، خاصّة وأنّ الواقع في حالة فيلم «أوروبا» يغدو أكبر من المتخيّل نفسه.
وبما أنّ الفيلم سبق له أنْ حاز على جوائز عالمية عدّة أهمّها جائزة «بياترتيشي سارتوري»، و»جمعية نقّاد وصحافيي السينما الإيطاليين»، فإنّ اختياره كأفضل فيلمٍ يُمثّل العراق في «أوسكار» جعله يحظى بقيمةٍ أكبر داخل العالم العربي، في وقتٍ أصبح الفيلم مُتاحًا يسهل تحميله ومُشاهدته على مَواقع سينمائية مجانية. لكنْ بقدر ما يُمثّل «أوروبا» تتويجًا مُستحقًّا أنْ يكون في الـ»أوسكار» تظلّ الأسئلة الفكريّة تتناسل حول أهميّة هذه الترشيحات والأسباب الفنّية والمُنطلقات الجماليّة، التي تُؤسّس مَسار وعي هذه الأفلام وعمليات الاختيار اليوم داخل السينما العربيّة، بحيث إنّ «أوروبا» يتميّز في كونه ينتمي إلى نوعية الأفلام التي تخلق جدلًا نقديًا وإعلاميًا قبل عرضها، بحكم انطلاقه من قضية مصيرية في حياة المهاجرين. كما تُتيح مثل هذه الأفلام مناخًا سينمائيًا لا يدعو فقط إلى المُشاهدة والاستمتاع، وإنّما إلى خلق جدلٍ داخل الأوساط النقدية، وإقامةٍ تواشجاتٍ فكريّة تتأمّل الموضوع/ الحدث/ الظاهرة/ الإشكالية داخل قالبٍ سينمائي، والإمكانات الفكريّة الثرّة والغنيّة، التي قد تمنحها لنا السينما في سبيل تحقيق هذا التأمّل الفكري، وذلك بالمقارنة مع الخطابين الشفهي والمكتوب.